كان عام 2003 عام العراق... والديبلوماسية الفرنسية بلا منازع. باكراً التقط الرئيس جاك شيراك، ووزير خارجيته دومينيك دوفيلبان الحدث العراقي فعملا لصياغة استراتيجية فرنسا وحدهما، تاركين "للرجل المكعب" رئيس الوزراء جان بيار رافران الغرق في الشؤون الداخلية ينافسه فيها الطامح الكبير نيكولا ساركورني وزير الداخلية! مع بلوغ نهاية 2003، والعودة بتقنية "الفلاش باك" إلى الوراء، يصبح من السهل وضع الموقف الفرنسي في الدائرة التي تحرّك فيها. لكن بملاحقة هذا الموقف لحظة لحظة، تبدو الخيارات الفرنسية محدودة، ومن نوع السير فوق حافة السكين.
باريس التقطت باكراً "نيات" البيت الأبيض الذي يهيمن عليه "الصقور" من المحافظين الجدد، وملخص هذه النيات أن الحرب ضد الارهاب، يجب أن تنتقل من أفغانستان إلى العراق، والسبب ليس لأن صدام حسين على علاقة مع "القاعدة". فالمعلومات الاستخبارية لدول التحالف الدولي ضد الارهاب كانت مجمعة على نفي وجود مثل هذه العلاقة، ولذلك لم يعد من وسيلة لإطلاق سراح قرار الحرب الأميركية باتجاه العراق سوى وجود أسلحة الدمار الشامل رغم فشل كل لجان التفتيش بالعثور عليها، ولأنه يجب التخلص من صدام حسين لأن دوره انتهى ولا يريد أن يقبل نهايته خارج المسرح السياسي.
الرئيس شيراك يعتبر أكبر خبير في شؤون الشرق الأوسط، فباريس تتحوّل أكثر من مرة في السنة الواحدة عاصمة لهذه المنطقة، إلى جانب شبكة العلاقات الشخصية التي يملكها شيراك مع مختلف الرؤساء والملوك وقيادات المنطقة. ونتيجة لهذه الخبرة الطويلة أدرك أن قرار واشنطن بإدارة جورج بوش وصقوره قائم لا ريب به. وما زاد في قناعاته هذه، تقارير استخباراته التي أكدت جازمة في مطلع العام 2003 أن قرار الحرب قد اتخذ.
وضمن حسابات الرئيس الفرنسي، ورئيس ديبلوماسيته دوفيلبان، والتي تأكدت صوابيتها لاحقاً، أن واشنطن تريد العراق لكونه قلب منطقة الشرق الأوسط. والسيطرة على هذا القلب جغرافياً واقتصادياً وخاصة نفطياً يعني السيطرة على المنطقة كلها والامساك بمفاتيح القرار نهائياً فيها، وبالتالي إعادة صياغتها تحت دعاوى "دمقرطة" دولها ودفعها نحو الاعتدال وضرب بؤر العنف المخزون فيها. وهذا الهدف الأميركي، قد لا يضر كثيراً بفرنسا وأوروبا كونها لا تزاحم واشنطن على الهيمنة والنفوذ، لكن شيراك أدرك أيضاً أن الامساك بالعراق، الذي لا وجود لأي شركة نفطية فيه، سيحرم فرنسا وروسيا والصين هذا "الكنز" النفطي والذي يعتقد أن مخزونه غير المستثمر أكثر بكثير من المعلن والمستخرج. وترجمة الامساك "بوريد" قطع النفط عن أوروبا وإخضاعها كلياً للعقدين المقبلين. والخطورة في كل ذلك وهو ما تكشف لاحقاً على يدي بيل كلينتون الذي كتب أن واشنطن تعتقد أن الاتحاد الأوروبي سيصبح قوة موازية لأميركا خلال العقود الثلاثة المقبلة وإذا ما أضيفت الصين الشعبية وروسيا واليابان والهند والنمور الآسيوية فإن زمن انفراد القوة الأميركية الأحادية بإدارة العالم يكون قد انتهى. ولذلك من الأفضل الضرب الآن في ظلال الحرب ضد الارهاب، ودفع الدول المتمردة للدخول في عالم الديموقراطية من أن يترك للزمن صياغة معادلاته وقواعده.
ولم يكن أمام فرنسا التي تقوم سياستها منذ أيام ديغول على عدم مزاحمة أو منافسة الولايات المتحدة الأميركية، سوى المواجهة. وجاء الامتحان للديبلوماسية الفرنسية، عندما برز السؤال الكبير هل تخوض واشنطن الحرب ضد العراق تحت ظلال الشرعية الدولية وتحت غطاء الأمم المتحدة أم تخوضها منفردة مع بعض الحلفاء وعلى رأسهم بريطانيا ـ بلير وتكون هذه "الحرب" الأولى في إطار مبدأ الحرب الوقائية هذه الحرب التي وضعها شيراك في خانة تحويل العالم إلى "غابة" يأكل فيها القوي الضعيف، ولذلك يجب الوقوف ضدها.
ولا شك أن الديبلوماسية الفرنسية قد وضعت كل ثقلها لكسب معركة الأمم المتحدة. وحدثت المعركة الكبيرة عندما حمل دومينيك دوفيلبان كل ثقل الديبلوماسية الفرنسية والثقة الكاملة به من جانب شيراك، لإحباط محاولة الولايات المتحدة الحصول على الأغلبية في مجلس الأمن. وكانت جولة دوفيلبان الافريقية حاسمة، إذ فشلت واشنطن في الحصول على الأغلبية، فخرجت من تحت مظلة الشرعية الدولية، وبدأت الحرب بضربة مباشرة ضد صدام حسين.
الولايات المتحدة الأميركية ربحت المعركة ضد صدام حسين بسرعة، لكن الفرنسيين ومعهم الألمان والروس يقولون ان بوش ربح معركة ولم ينتصر بالحرب حتى بعد إلقاء القبض على صدام حسين. فأمام بوش وحلفائه معركة إعادة إعمار العراق وهذه المعركة لا يمكن استبعاد فرنسا ومَنْ معها وحولها عنها. وجاءت أعمال "المقاومة" في العراق لتؤكد وجهة النظر الفرنسية بأن الأميركيين لا يعرفون مدى عمق الوطنية العراقية، وأن الحل الوحيد هو في الاسراع بإعادة السيادة إلى العراق والعراقيين، وفتح الباب أمام تشكيل حكومة عراقية شرعية، وعندها يمكن بحث كل الملفات بما فيها ملف الديون المتراكمة على العراق.
حرب حقيقية
"حرب" حقيقية تدور الآن بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية وهي تبدأ باستبعاد الفرنسيين من عقود إعمار العراق لتصل إلى محاربة حصول فرنسا على مشروع مفاعل الدمج النووي التجريبي رغم وقوف كل أوروبا بما فيها بريطانيا معها، مروراً بحفلات تكسير قناني النبيذ والدعوات لمقاطعة المنتجات الفرنسية. ولا يبدو أن الرئيس شيراك مستعد للتراجع أو التنازل لوقف هذه الحرب الأميركية، لأن أي تراجع من جانبه يعني الهزيمة الكاملة لباريس وإذعانها لشروط واشنطن، وهذه الهزيمة لا تعني مرحلة زمنية أو عهداً رئاسياً وإنما تطاول عقوداً طويلة، خاصة إذا ما وضع كل ذلك في سياق بناء الاتحاد الأوروبي.
وإذا كانت الديبلوماسية الفرنسية قد حققت نجاحاً تاريخياً على جبهة الحرب ضد العراق، فإنها لم تستطع حتى النجاح على جبهة الاتحاد الأوروبي، ذلك أن عملية توسيع "البيت الأوروبي" من 15 إلى 25 دولة ليس أمراً سهلاً خاصة بعد دخول واشنطن على الخط ومحاولة دونالد رامسفيلد اللعب على الانقسام بين "أوروبا قديمة" و"أوروبا جديدة"، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في "هوية الحصان" الذي سيقود هذه "العربة"، إذ تعتبر باريس أن "الحصان" يجب أن يكون "فرنسياً ـ ألمانياً"، في حين تريد بريطانيا ذلك لنفسها وبالتحالف مع اسبانيا ودول من أوروبا "الجديدة" تدور في الفلك الأميركي. ولذلك كله فشل إصدار الدستور الجديد لأوروبا تحت بند مطالبة بولونيا وإسبانيا المساواة في الأصوات لئلا يكون لدولة واحدة حضور أقوى يصل إلى حد "الفيتو". هذا التراجع يبدو مجرّد كبوة فيما "الحصان" الأوروبي قدره أن يصل إلى النهاية، لأن مستقبل أوروبا من مستقبل كل دولة فيها، والعكس صحيح، خاصة في زمن العولمة حيث لا أهمية للدول الصغيرة والمعزولة مهما كانت عريقة وقوية.
إلى ذلك، احتلت قضية كورسيكا مثل كل عام جانباً مهماً من المسرح السياسي. فهذه الجزيرة التي منها نابليون بونابرت والتي تعتبر "شامة الجمال" في خد فرنسا، أصبحت منذ عقدين "دملة" ملتهبة، إن أغفلت الحكومات عنها امتد التهابها إلى باقي أرجاء فرنسا، وان تم "فقؤها" تأثرت بعض المقاطعات بذلك. فهناك "بريتانيا" و"الباسك" فضلاً عن مناطق "الدوم ـ توم" في أعالي المحيطات لها مطالب كامنة على غرار الكورسيكيين. ولذلك فإن فشل تعديل قانون الانتخابات في الجزيرة، فتح ملفاً صعباً وهو كيفية ضرب القوى الانفصالية دون وقوع صدام مع المجتمع الكورسيكي. ويبدو أن نهاية العام 2003 حملت حلاً بسيطاً لذلك وهو: اضرب البنية المالية للجماعات الانفصالية المختلطة بأعمال المافيا والتسلط تحقق نجاحاً على الجبهة السياسية!
وأخيراً مسألة الحجاب ومنعه، فقد اختار شيراك قانوناً لمنع الحجاب في المدارس، وهو عملياً لا يطاول سوى ألفي طالبة مسلمة على الأكثر، في حين أن القانون قد يسبب مواجهة مع 3 ملايين ينتمون إلى الجاليات المسلمة، التي اعتبرت القانون ضربة ضد الحجاب، علماً أن المعركة الحقيقية هي في تحقيق المساواة في التعليم وفرص العلم لإنجاز الدمج النهائي. فليس الحجاب كما تقول الهيئات المسلمة هو الذي يحقق الفصل في المجتمع الفرنسي ويخلق الارتباط الجهوي أو الكوربوراتي!
أخيراً إن انتهاء عام 2003 وبدء العد العكسي للعام 2004 يطرح سؤالاً كبيراً حول السباق الدائر منذ أشهر لخلافة جاك شيراك في الرئاسة، ويبدو أن الفقر الملحوظ لدى اليمين واليسار في الشخصيات القادرة على الفوز بالمعركة الرئاسية يفتح الباب واسعاً أمام شيراك لإنجاز ما عجز الآخرون عنه وهو ولاية رئاسية ثالثة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.