توقف الخلاف العلني بين دومينيك دو فيلبان وزير الخارجية الفرنسي، وميشال اليو ـ ماري وزيرة الدفاع، حول حقيقة اطلاع فرنسا على المفاوضات السرية بين ليبيا وكل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، والتي انتهت بإعلان الأولى في 19 الجاري قرارها نزع أسلحة دمارها الشامل وخضوعها لشروط وقواعد وكالة الطاقة الذرية، التي يرأسها الدكتور محمد البرادعي. لكن انعكاسات هذا الخلاف، وشعور باريس بنكسة سياسية وديبلوماسية مؤلمة في وقت تبدو فيه "الحرب" مفتوحة مع واشنطن، ما زالت تتفاعل داخل الهيئات الرسمية.
مصادر صحافية فرنسية أكدت ان جهاز المخابرات الفرنسي سيدفع الثمن غالياً، نتيجة لهذا الفشل التاريخي. ويبدو ان تنافساً حاداً قد نشأ بين الإدارات الفرنسية، سواء تلك المرتبطة بوزارتي الدفاع والخارجية أو أجهزة المخابرات، أدى إلى تسريبات صحافية تؤكد ان فشل فرنسا في هذا الملف لا يعود إلى قرار ليبي وإنما إلى التردد الفرنسي الناتج من تعقيدات سياسية وإدارية في الوقت نفسه. واستناداً إلى التسريبات الصحافية، فإن بدايات شريط الأحداث والاتصالات تعود إلى أواسط نيسان 2002.
فقد استقبلت فرنسا التي تقيم علاقات وثيقة مع ليبيا ومعقّدة جداً في آن معاً وقائمة في أحيان كثيرة على عدم الثقة نتيجة لتجارب عديدة في افريقيا وخصوصاً في التشاد، ضيفاً "خاصاً جداً" في أواسط نيسان 2002. في ذلك اليوم وصل إلى مطار باريس أحد كبار مسؤولي المخابرات الليبية، الذي لم يتم كشف اسمه حتى الآن ربما بسبب تعقيدات المفاوضات حول تعويضات طائرة "اوتا" المختلف عليها مع طرابلس، وقد التقى فوراً ولمدة ساعات مدير جهاز المخابرات المضادة للتجسس (DGSE) في حينه وهو جان كلود كوسران. وخلال المباحثات أبلغ المسؤول الليبي محادثه المسؤول الفرنسي الخبير جداً بملفات الشرق الأوسط، ان العقيد معمر القذافي مستعد لتخلّي ليبيا عن كل صواريخها البعيدة المدى، وكذلك مخزونها من الأسلحة الكيميائية والبيولوجية وأخيراً تسليم كل ما بحوزتها من تجهيزات وخبرات تتعلق بالسلاح النووي.
وتشير المعلومات المسرّبة إلى ان كوسران المطلع جداً والخبير المعروف بالملف الليبي، تلقى العرض بحذر شديد، لكون التجارب السابقة علّمت باريس ان تحذر وعود القذافي وعروضه. ولذلك كله طلب كوسران مهلة شهر لدراسة العرض واتخاذ القرار المناسب.
وهنا، عاكست الظروف، وليس فقط الحذر السياسي، فرنسا، ففي تلك الفترة كانت باريس والفرنسيون يعيشون "زلزال الربيع" الناتج من الانتخابات الرئاسية، وكان من مظاهر خلافات تلك الفترة ان جان كلود كوسران، الذي عيّنه ليونيل جوسبان رئيساً للجهاز لكنه يحوز ثقة شيراك المنتخب حديثا، يتعرض فجأة لزلزال داخل جهازه ومقره الدائم المعروف باسم "البيسين" أي المسبح. فقد تبين ان فرعاً من الجهاز تجاوز كوسران وأجرى تحريات بتكليف من مكتب رئيس الوزراء في حينه ليونيل جوسبان حول الحياة الشخصية للرئيس المرشح جاك شيراك. ولأن التدخل في الحياة الشخصية للسياسيين مرفوض عُرفاً في فرنسا، فقد وقعت مسؤولية التجاوز على رئيس الجهاز كوسران. وكان أن جرى نقله، وهو الديبلوماسي العريق الذي شغل لفترة طويلة منصب سفير فرنسا في سوريا، وإدارة الشرق الأوسط وشمال افريقيا في الخارجية، لتولي منصب السفير في مصر، مما يعني إدارياً انه جرى الاحتفاظ بالتقدير له ولكفاءته الديبلوماسية والأمنية.
المهم ان خليفة كوسران، وهو الديبلوماسي المحترف بيار بروشان، الذي تقول المعلومات نفسها انه لم يكن يرغب بهذا الموقع، وجد لدى دخوله "البيسين"، الملف الليبي، وبعد أيام ـ وهنا تضيع المعلومات حول الجهات التي اطلعت على الملف ـ عرض على طرابلس أن تتصل مباشرة بالهيئات الدولية المختصة وهي هيئة منع الأسلحة الكيميائية (OIAC) وهيئة الأسلحة الكيميائية (CAC)، بمعنى آخر الذهاب إلى لندن وواشنطن. لا بل ان بعض المعلومات تؤشر إلى توجيه النصيحة إلى طرابلس بالتعامل مباشرة مع واشنطن طالما ان كل ما يجري هو نتيجة لما بعد 11 أيلول. وهو ما فعلته طرابلس وأنتج بعد أقل من عام هذا النصر السياسي والديبلوماسي لكل من الرئيس جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني طوني بلير.
حالياً لا يبدو ان ثمة فائدة من البكاء على المياه التي سالت تحت جسور باريس، ولأن التقاليد الإدارية تقضي باتخاذ قرارات تتعلق بمناقلات وتغييرات في المواقع المهمة، فإن مدير جهاز مكافحة التجسّس بيار بروشان مرشح للذهاب سفيراً لبلاده في الفاتيكان وليس روما كما كان يرغب. كما يجري التنافس على تعيين شخصية مكانه، وأبرز المرشحين هو كلود ماليه مدير العسكرتارية العامة لوزارة الدفاع المدعوم من جيروم موند المستشار النافذ في الاليزيه، وبيار فيمون مدير دائرة وزير الخارجية دومينيك دو فيلبان. وهذا يفسر الخلاف العلني بين دو فيلبان واليو ـ ماري، ولذلك فإن المتوقع اختيار مرشح آخر لاحتواء الخلافات والتنافس بين الخارجية والدفاع بأقل خسائر ممكنة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.