لم يعد مهماً متى تجري الدورة الثانية للانتخابات التشريعية في الجمهورية الإسلامية في ايران، ذلك ان نتائج الدورة الأولى حسمت الموقف، و"الانقلاب الدستوري" الذي بدأ ببلاغ الرقم واحد أطلقه مجلس صيانة الدستور بقراره استبعاد مئات المرشحين من التيار الاصلاحي، وخاصة المنتمين منهم الى حزب جبهة المشاركة الذي يرأسه محمد رضا خاتمي شقيق الرئيس خاتمي، انتهى بنتائج معروفة سلفاً لمصلحة المحافظين.
لكن هذه النتائج تستدعي قراءة معمقة أقله لأن الاصلاحيين يصرخون عالياً قائلين ان صلب المعركة كان في نسبة المشاركة، وقد تم الفوز فيها لكون نسبة المقترعين في عموم الجمهورية لم تصل الى 52% وأن نسبة المشاركة في طهران لم تصل الى 30%، بينما بلغت 67.5% في الانتخابات السابقة التي جاءت بالمجلس التشريعي السادس وامعاناً في تثبيت هذه المعادلة يركز الاصلاحيون على نتيجة انتخاب حداد عادل زعيم اللائحة الاصلاحية في طهران الذي فاز بأعلى نسبة من الأصوات وحلّ الأول بين الفائزين، مما يؤهله لترؤس المجلس الجديد خاصة بعد انسحاب حجة الاسلام مهدي كروبي، لكنه لم يستطع الحصول على حصيلة أصوات توازي تلك التي حصل عليها في الانتخابات السابقة علماً أنه كان قد حلّ في المرتبة 32. ولذلك كله فإن الاصلاحيين يقولون ان هذا المجلس مهما فعل وأنجز، سيبقى في ضفة موازية للضفة التي تقف فيها الشرعية المجسدة في طوفان الشباب الذين هم تحت سن الـ25 ويمثلون 65% من مجموع الشعب الايراني.
أما المحافظون فإنهم سارعوا الى "الاشادة" بالاقبال الكثيف على الانتخابات والذي كان "مدعاة لرضى الله"، مؤكدين ان هذه "المشاركة الثابتة والقوية، كتبت عبر الشعب الايراني النبيل والشجاع والديني والثوري، صفحة جديدة في تاريخ أكثر اشراقاً ومجداً. كما ذهب الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الايرانية، الى استخلاص نتيجة تتطابق مع ما أرادته القيادة الايرانية منذ تنفيذ سياسة شطب المرشحين، فقالت ان هذه الانتخابات وهذه المشاركة الشعبية هي "اثبات لولاء الشعب الايراني للنظام والثورة، ما يشكل أكبر سند للنظام".
هذه القراءة الثنائية المتعارضة لمجرى الانتخابات النيابية تفرض سيناريوين موازيين ومتعارضين للنتائج المترتبة عليها، وبالتالي للمستقبل المنظور للجمهورية الاسلامية في ايران.
السيناريو الأول، يقدم صورة هادئة وعملية قائمة في عناصرها الأساسية وتعرجاتها على "التجربة الصينية" مع الأخذ بخصوصية ايران، أي مثلما حصل بعد ماوتسي تونغ عندما دخل المعتدلون تدريجياً الى النظام فانتقل من ايدي دينغ هيسياوبينغ الى الرئيس التكنوقراطي الحالي هو جنتاو يمكن الجمهورية الاسلامية في ايران ان تسير على هذه الخطى وفي مسار طبيعي يحققه من يطلق عليهم مجازاً "المحافظون الجدد" وهم المحافظون المعتدلون بين اطياف متعددة داخل تيار المحافظين، يدعمهم أيضاً المعتدلون داخل تيار الاصلاحيين، فيسقط بذلك "صقور" التيارين لمصلحة "الحمائم".
ويُفترض بهذا الصعود للمعتدلين، وسقوط المتطرفين، أن يكون تحت اشراف وتوجيه "الحرس القديم"، وحين يقال هذا فالمقصود "قلعة النظام" هاشمي رفسنجاني وبالطبع من دون تناسي دور المرشد آية الله علي خامنئي، لأنه من هيكل النظام وصلبه. وسيكون من التوجهات الأولى للمرحلة "انحسار المجادلات والصراعات السياسية والاهتمام بالمشاكل الواقعية للبلاد" كما قال حداد عادل. وبعد عملية التسلم والتسليم الكاملة مع انتهاء ولاية الرئيس محمد خاتمي وانتخاب رئيس جديد قد يكون علي لاريجاني أو من يماثله، ستطرح "تعديلات دستورية" تتناسب مع تغير أحوال الثورة والجمهورية، والمتغيرات الدولية والاقليمية.
كذلك، سيجري تعديل ولاية الفقيه تحت شعار التجديد. وذلك بعد ان أصبح واضحاً ان الولاية المطلقة للفقيه مرفوضة وان هذا الرفض طاول حتى نظرية الولاية نفسها كما جرى مع آية الله العظمى حسين منتظري، وحتى مؤخراً مع التنظيم الطلابي الرئيسي "دفتر تحكيم وحدت" الملتزم خط الامام. واذا كانت التعديلات غامضة، الا انها تتجه نحو جعلها جَماعية ومُحددة زمنياً وبالانتخاب المباشر من الايرانيين. وهذا "الحل" لولاية الفقيه يطرحه انصار هاشمي رفسنجاني، الذي يعرف جيداً انه لا يمكنه ان يكون ولياً لأنه لا يملك الأعلمية الفقهية المطلوبة.
وأخيراً ان الجمهورية القادمة بعد "الجمهورية الخاتمية"، يُراد لها أن تكون جمهورية التكنوقرط المتخصصين، على أن تُترك السياسة وحلولها لأهل الربط والحل من الفقهاء. أما امتدادات هذا السيناريو على الصعيد الخارجي، فهي إجراء "مصالحة" واسعة مع المجتمع الدولي، والعمل لحل "عقدة العقد" وهي العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية على أساس انه "من الناحية العقائدية لا تعتبر العلاقة مع أميركا واجبة كالصلاة والصوم ولا حراماً كالخمرة، وان هذه القضية هي في عداد مصالحنا الوطنية في أي مرحلة"، وذلك كما أعلن أحمد توكلي العضو البارز في تنظيم "رواد البناء" الذي يرأسه عملياً هاشمي رفسنجاني.
السيناريو الثاني نقيض الأول مئة في المئة، وفي تفاصيله الأساسية، ان ما جرى قبل الانتخابات وبعدها هو "دخول العسكر" علناً الى مفاصل الجمهورية، وخاصة السلطة التشريعية، تحت إشراف وتوجيه المرشد آية الله علي خامنئي. وان كل ما يقال عن "الخط الثالث"، وانتصار المعتدلين بقيادة هاشمي رفسنجاني ليس سوى أوهام وتمنيات. ذلك ان علي هاشمي الابن السياسي والروحي لهاشمي رفسنجاني فشل في انتخابات طهران، بعدما حل في المرتبة الـ46، علماً أن عدد نواب طهران هو 30 نائباً. وأن مجموع نواب حزب رفسنجاني "رواد البناء" لا يتجاوز عددهم في الدورة الأولى الخمسة نواب وبعض المستقلين الذين عادة يتجهون نحو الأقوى، وان المعتدلين في جمعية "روحانيون مبارز" بزعامة مهدي كروبي رئيس المجلس السادس، لم يحصلوا على أكثر من عشرة مقاعد، وان كروبي نفسه انسحب من الانتخابات.
هذا في وقت حصل جماعة المرشد والمنضوين في حزب "دعاة البناء" بقيادة حداد عادل (وهو متزوج من ابنة المرشد خامنئي) على الأغلبية المطلقة التي تقودها "ترويكا" مكونة من حداد عادل ومحسن رضائي قائد الحرس الثوري سابقاً لمدة 11 عاماً (وتضم كتلته حوالى 70 نائباً معظمهم من قدامى الحرس ومخابراته وأجهزته) واللواء نزاري وهو قائد سابق في جهاز أمن الحرس الثوري، واشتهر بقيادة الهجوم على الجامعة في طهران الذي سقط خلاله عشرات القتلى والجرحى.
وأخيراً فإن تنظيم "المؤتلفة" العمود الفقري لتيّار المحافظين أصبح جزءاً من مجموع هذه القوى المتحالفة.
ماذا سيحصل في ظل هذه التركيبة الحاكمة؟
السيناريو الثاني يضع خطوطاً متقاطعة تقود الى المزيد من الانضباط الداخلي باسم حماية النظام من الهجمة عليه من الأميركيين، الرابضين في العراق، وأفغانستان، وفي الوقت نفسه المزيد من المفاوضات السرية مع واشنطن، تحت بند حاجتها للنظام الإيراني في العراق. ويرى أصحاب هذا السيناريو أن واشنطن نصبت فخاً للمحافظين فسقطوا فيه، إذ اتجهوا الى وضع يدهم على جميع مفاصل النظام بحجة ان واشنطن لا تمانع في ذلك بل ترحب به. في حين ان الأميركيين ينفذون استراتيجية طويلة المدى تهدف الى فرقعة النظام من الداخل على طريقة "طنجرة البخار" فكلما ارتفعت الحرارة وازداد البخار أصبح سهلا إحداث الانفجار الداخلي المرحب حتى بالتدخل الخارجي.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.