8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

الأكراد أقوى الأطراف الضعيفة في ظل الاحتلال وحديث عن "طائف عراقي"

"السلام عليكم" لم تكن من أردني أو عراقي بل جاءت من جندي أميركي، أمام رتل السيارات الطويل، والفجر الذي لم يولد بعد. قدمت جواز سفري الفرنسي، فقال الجندي: "بونجور". ولحقني حسن العراقي الذي يحمل جوازاً أميركياً، فدار الحوار بالانكليزية بلكنة نيويوركية. كان هذا الجندي الأميركي الواقف بديلاً من الأمن العراقي، قد أخذ درساً في العلاقات العامة، لئلا يبدو جندياً محتلاً يتعامل مع العابرين بعلاقة المحتل، مع أنه غريب محتل!
اجتزنا الحدود بسرعة، بدون تأشيرة. الموافقة الأردنية الجاهزة في بطاقة صحافية زرقاء تكفي. كأن الأميركيون لا يريدون ترك بصماتهم على الجوازات، اذ يكفي حضورهم بكل أسلحتهم الفردية، والدبابة الرابضة تحت تمثال صدام حسين على حصان عربي مقلوب على رأسه، وكأن الحصان في الثواني الأخيرة من نزاعه يرفض الاستسلام للموت في حين أن راكبه فقد رأسه وضاعت ملامحه!
ندخل في عداد قافلة الصحافيين، التي انطلقت من عمان. وقبل أن نتحرك، يعمل السائقون لنزع اللوحات الأردنية عن السيارات.
ويهمس سائقي علاء: "لا أخفي أن لدى العراقيين حساسية زائدة حيال الأردنيين، خصوصاً نحن لأنهم يحملوننا تبعات السوق السوداء". تنطلق القافلة، التي يقودها أحد السائقين الخبراء، بعد أن يوزع تعليماته: "ممنوع تجاوز سرعة المئة كلم حتى نتوقف. بعدها يمكن الوصول الى 150 كلم. لا أحد يتجاوز أحد. إذا توقف أحدكم يتوقف الجميع"! وكل هذه التعليمات لأن الطريق غير آمنة. ذلك أن "قطاع الطرق" هاجموا سيارات عدة بعد أن اطلقوا عليها الرصاص، كما حصل مع قافلة أميركية.
من حين الى آخر، كانت طائرة هليكوبتر أميركية، تحلق فوق القافلة، في إشارة الى أن الطريق أصبحت مراقبة. طوال 500 كلم، لم تظهر آثار الحرب، سوى مرة واحدة، على جسر استهدف بقصف جوي مباشرة. أما المهبط الجوي الطارئ داخل الطريق المزدوج كما أشار اليه السائق علاء، فإنه بقي سالماً، لأن الجيش العراقي نشر في وسطه منذ فترة طويلة قوالب باطون تؤكد عدم استخدامه وهي بدت كأنها علماً أبيض يعلن الاستسلام!
ما إن نخرج من الصحراء وندخل خضار النهرين، حتى تتوالى آثار الحرب، مثل شريط سينمائي من دون نهاية.. دبابة محترقة هنا، وراجمة صواريخ هناك. ومدفع مع عربته على حافة الطريق، واوتوبيس مدني محترق أبعد قليلاً من وسط الطريق.. لكن على الرغم من ذلك نلاحظ بسرعة أن ثكنة ضخمة للجيش قد نهبت عن بكرة أبيها حتى أطر نوافذها، لكن لا يبدو أنها كانت مسرح معركة. إذ لا أثر لطلقة رصاص على سورها..
أرفع رأسك
دخلنا بغداد من ناحية المنصور، حيث بقي تمثال المنصور شامخاً، وأخذت تتوالى آثار الدمار. مؤسسة بعد مؤسسة منهوبة أو محروقة، ومجموعات من الفتيان وحتى النساء يخرجون مما تبقى ما بقي من بقايا البقايا. والدبابات الأميركية وجنودها واقفة مثل شاهد زور وعلى الجدران شعارات فوق شعارات الماضي التي كان النظام يستخدمها وكلها من كلمات "القائد السيد الرئيس المنصور بالله صدام حسين حفظه الله" كما كان يشار اليه رسمياً. وعلى جدار قيادة فرع الحزب في المنصور الذي تحول مقراً لحزب الدعوة، كتب "الجماهير أقوى من الطغاة.. دم الصدر والأحرار في أعناق البعثية وصدام المجرم". وأبعد قليلاً حيث كتب "أرفع رأسك، أنت عراقي"، وهو من الشعارات القديمة، وظهر شعار جديد هو "لا شيعية ولا سنية، وحدة عراقية".. والى جانب شعار "أمة العرب منا ولنا" القديم كتب "اللهم أحفظ العراق".. وأكمل بشعار "حرام سرقة أموال الشعب".
بلغنا جسر الجمهورية الشهير الذي عندما عبرته الدبابة الأميركية الأولى، شعر البغداديون أن رصاصة الرحمة أطلقت على النظام. مبنى رئاسة الوزراء ومقر وزارة التخطيط لم يبقَ من نوافذهما حتى الحديد، ومن الجدران سوى آثار الحريق. حتى أسلاك الكهرباء كانت مجموعات تسحبها من الخلف. بعد الجسر ساحة التحرير، ومن ثم فندق فلسطين الذي تحرسه دبابات أميركية، لأن الصحافيين حولوه مع الشيراتون الى "غرفة عمليات"، في حين أن مجموعات عراقية بدت وكأنها منظمة حولته سوقاً تشبه سوق الجمعة في الأحياء الشعبية. فيه كل شيء من "تلال" الويسكي والبيرة الى مشاوي الفحم ومجامر الشاي والاراجيل وصولاً الى بسطات الأوسمة والساعات التي تحمل صور صدام حسين. لم نبقَ طويلاً وانتقلنا الى فندق صغير. وضعنا حقائبنا وخرجنا على عجل. فقد أعلمنا الجميع أن النهار ينتهي باكراً وأنه يجب العودة، قبل الثامنة ليلاً "ولا تغشكم صفوف السيارات الطويلة والتي تصل الى كيلومترات عدة فهي تنتظر أمام محطات الوقود بحماية الدبابات الأميركية طوال الليل، لتحصل على حصتها، قبل ظهيرة اليوم التالي".
بغداد، تبدو خائفه وقلقة.. خائفة على حاضرها، وقلقة على مستقبلها والعراقيون حذرون في تنقلاتهم، ينظرون حولهم وخلفهم ذلك أن غالبيتهم لا تفهم ما يحصل، أو أنها لم تستوعب ما حصل. وكلما تراجعت الشمس، وتقدم الليل، كلما خلت الشوارع، وتحولت بغداد الى مدينة مهجورة. فالدبابات الأميركية والجنود الذين تبدو عليهم حالة الاسترخاء العسكري دون أن ينزعوا ستراتهم المضادة للرصاص التي لا تخيف عصابات السارقين الذين يتجولون مسلحين. بعضهم يعلن أنه يريد استرداد ما خسره على يد النظام السابق، ولذلك نشاهد لافتات عليها: هذا البناء عاد محروقاً الى صاحبه الأصلي، وبعضهم يسرق ويقتل لأنها حرفته. وفي كل مكان، وبخاصة في الساحات وأمام المقرات الرسمية، أسقطت ودمرت تماثيل صدام حسين ومزقت صوره الضخمة، التي كانت تحرس بغداد، بدون دبابات، فارضة الخوف حتى في لاوعي العراقي العادي. ويوماً بعد يوم من الإقامة في بغداد ترى أن العراقيين يخافون من صدام حسين الى درجة أن مجرد إشارة الى إمكانية بقائه حياً تثير الانقباض والقلق الى درجة الرعب. "فالإنسان في العراق كما يقول أحد سادة النجف كان مبرمجاً" وحالياً هو يعمل بلا برنامج.
البوصلة الأميركية
ندخل العراق، الذي يبدو كما يصفه الشيخ الخاقاني "يكاد يكون كالشظيه المنطلقة من قنبلة متفجرة لا تهتدي الى موقعها ويقودها اللاخيار باتجاه الموقع الذي ستستقر فيه"، والواقع أن هذه "الشظية" التي لا تعرف وجهتها، أسيرة "البوصلة" الأميركية التي لشدة ما ركزت على وجهة إسقاط النظام، لم تستعد حركتها الطبيعية لتحديد وجهة مستقبل العراق. ولأن هذا "المستقبل" ليس بيد العراقيين. فإن ذلك يخيفهم أكثر. ومما يغذي كل ذلك أنه لدى العراقيين أحزاباً ومواطنين، خلطاً واضحاً ومؤلماً، حول "هوية" الجيش الأميركي، والخلط قائم بين التحرير والاحتلال. فالجميع باستثناء بقايا من الذين يكشفون التزامهم السياسي السابق، يرون أن الجيش الأميركي قد "حررهم" من نظام صدام حسين، وأنه لا يجب إنكار هذا الدور لكون العراقيين لم يكن باستطاعتهم إسقاط النظام، والعرب لم يساعدوهم.
إلا أن الجميع متفقون على أمر واحد وهو ضرورة "أن يرحل الأميركيون بأسرع وقت" وقد كرر ذلك أمام "المستقبل" جلال الطالباني وهوشيار الزيباري مسؤول العلاقات الخارجية في الحزب الديموقراطي الكردستاني، وأحمد الجلبي وأبو رياض المهندس والشيخ الوكيل والشيخ الخاقاني والسيد السيستاني. ويرى كل هؤلاء ومعهم كل أطياف المجتمع العراقي، أن الخلاف يدور حول فترة بقاء "الوجود الأميركي". ففي حين يرى اللواء السابق سعدون الدليمي الذي استقال بعد أيام من مجيئه من واشنطن كمشرف على وزارة الداخلية، أن فترة بقاء هذه القوات يجب ألا تزيد عن خمس سنوات ولا تقل عن سنتين وذلك لكي يكون الشعب العراقي مهيئاً لحكم نفسه بنفسه في نظام ديموقراطي. وبدوره فإن جلال الطالباني يعترف بأنه يجب القبول بوجود هذه القوات لفترة زمنية محدودة وذلك لدفع ثلاثة أخطار هي: بقايا الحكم السابق، والتدخل الاقليمي ومنع الصدامات الداخلية". أما الشيخ الوكيل فإنه يرى "أنه في ظل هذه الفوضى من الضروري وجود هذه القوات للحفاظ على مصالح العراق، فيما يرى أبو رياض المهندس الناطق باسم حزب الدعوة وجوب مغادرة هذه القوات العراق فوراً أي اليوم وليس غداً".
وماذا لو بقي الأميركيون؟
يقول العراقيون: الأميركيون لم يأتوا بإرادتنا. الناس مجردون من السلاح. الإنسان يحتاج الى القوة والقدرة للمقاومة. ويشير أحد العراقيين الذين يلعبون دوراً في الوضع الحالي الى "أن العراقي بحاجة حالياً لفترة زمنية للتعامل مع هذا الاحتلال، والتسيب الأمني الذي نراه يرافقه تسيب سياسي عميق. والأهم لا يوجد حالياً في العراق سياسي عراقي واحد يملك شرعية القيادة والتوجيه. حتى وجود حزب أو مجموعة أحزاب قادرة على التوجيه وتأطير الشعب العراقي غير موجودة". وعن العمليات العسكرية التي تقع هنا وهناك يقول عراقي مطلع: "بعضها يقوم به عناصر النظام القديم ليؤكدوا أنهم موجودون وقادرون على التخريب وأسماع صوتهم، وبعضها الآخر يقوم بها عناصر حزبية قديمة ترفض الهزيمة وترفض في الوقت نفسه إلصاق هزيمة النظام بالحزب، ولذلك نرى أن البداية في مثل هذه العمليات وفي إعادة تشكيل حزب بعثي جديد بعد إدانة الفترة الماضية كلها، وقد صدرت بيانات بهذا المضمون. وبعضها ثأرية نتيجة ليوميات التعاطي الاحتلالي للجنود الأميركيين، وأخيراً منها ما هو فردي بالكامل صادر عن حالة يأس كاملة ناتجة عن معاناة يومية من وضع اقتصادي صعب وممارسات الفوضى والسرقات والقتل. وهي لا بد أن تزداد كلما استمر التسيب الأمني وكلما ازداد شعور العراقيين بأن الأميركيين لا يعملون على تسريع بناء التشكيل السياسي للنظام في البلاد".
الاعتراف الثاني الذي تجمع عليه مختلف القوى أن الأميركيين سيبقون في العراق على طريقة وجودهم في اليابان والمانيا لفترة طويلة وهذا ليس احتلالاً، وهو كما يرى وفيق السامرائي مدير المخابرات السابق "سيكون تواجداً في قاعدتين في الشمال والجنوب"، في حين يرى آخرون أن الكلام عن قاعدتين غير كاف لأن الأميركيين يريدون تحويل العراق الذي هو "قلب" المنطقة على الصعيد الجيوبوليتيكي الى "قلب" الانتشار الأميركي في المنطقة والدوائر المحيطة بها.
هذا الوجود الأميركية المنظم، يلزمه سلطة عراقية تنظمه ولا تبدو هذه قائمة اليوم وغداً. فالخلافات طاحنة حول طبيعة الحكومة التي يجب أن تشكل وما إذا كانت ستكون حكومة موقتة أم سلطة وطنية، ومن ثم حول طبيعة تشكيلها من حيث أطرافها ونسبها. وفي الوقت نفسه لا يبدو الأميركيون وبخاصة بريمر مندوب الرئيس جورج بوش في عجلة من أجل الحل لكون ذلك يتطلب وقتاً خصوصاً وأن الجنرال غارنر كان الضحية الأولى للوضع العراقي المعقد. ولا يبدو بريمر مستعد لأن يكون الضحية الثانية، وذلك باسم الديموقراطية، وضرورة اللعب في إطار قواعدها، حتى ولو أخذ الأمر وقتاً طويلاً.
توالد الأحزاب
في هذه الأثناء، تولد الأحزاب والمنظمات والحركات السياسية مثل الفطر. فكلما أشرقت الشمس على بغداد، ظهر اسم جديد وصحيفة جديدة، وبعد أسابيع قليلة على سقوط الحزب الواحد الحاكم، والقائد الذي غنى له المغنون "ما نريد الهوى والمي بس سالم أبو عدي سالم". لكن "هذا الجو الصحي، يقول داوود الفرحان الأمين العام المساعد لنقيب الصحافيين العرب، للتعبير عن الرأي والاعتياد على الكلام والتفكير أعطى ولادات لأحزاب لا تمثل سوى المعلنين عنها. وعلى الرغم من وجود أحزاب قديمة تمثلت سابقاً في مؤتمرات المعارضة العراقية في صلاح الدين ولندن مثل الوفاق والمؤتمر والمجلس والديموقراطي الكردستاني والوطني الكردستاني، إلا أن كل هذه الأحزاب تبحث وتعمل للحصول على "شرعية شعبية" ومن ثم تثبت وجودها. وهي نتيجة للاحتلال الأميركي ووجود "مندوب أميركي سامي"، تلعب جميعها في الملعب الأميركي، وتستمد القوة والحضور منه". ولذلك فإن الأحزاب موزعة في "توجهها" على مراكز القوى فالجلبي محسوب على البنتاغون والعلاوي على الخارجية...
وما يزيد حاجة هذه الأحزاب لـ"الأميركي"، أنها وهي ضعيفة تبحث عن الشرعية فتتصارع في ما بينها. فحركة الوفاق على خلاف قاتل مع حزب المؤتمر الوطني وهو خلاف شخصي بين الجلبي والعلاوي الى جانبه السياسي، والخلاف السياسي يبدأ من مطالبة الأول "باستئصال الحزب الحاكم السابق"، في حين يرفض العلاوي ذلك ويحصره بإلغاء الحزبيين الملتزمين بالنظام فقط ليصل الى طبيعة الحكومة المرتقبة التي يعتبر العلاوي أنه يمكن أن تكون "سلطة وطنية"، في حين يرى أبو رياض المهندس وجوب قيام حكومة عراقية غير مفروضة من أجنبي، أما السيد رضا السيستاني فإنه يرى أن التسلّط مرفوض وأنه يجب إفساح المجال للعراقيين أن يحكموا بلادهم بلا تدخل.
ويقول عراقي فاعل إن القوى الأساسية موزعة على جبهتين تحاول كل منهما ضم القوى الناشئة اليها:
* الأولى تضم المؤتمر الوطني بزعامة أحمد الجلبي ومعه الحزب الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بزعامة آية الله محمد باقر الحكيم.
* الثانية فيها مسعود البرزاني زعيم الحزب الديموقراطي الكردستاني واياد العلاوي زعيم حركة الوفاق الوطني وحزب الدعوة الإسلامية بزعامة الجعفري، وقد دخلت هذه المجموعة على خط عدنان الباجه جه.
وعلى الرغم من أن كل كتلة لها ثقلها إلا أن كلاهما تعانيان نقصاً أساسياً لأن "الغياب السني العربي واضح"، وهذا ناتج عن "الخلط بين النظام السابق والسنة، الى جانب غياب التيار العروبي". وتجري محاولات جدية لإحياء هذا التيار، إما عبر دفع قوى قديمة ليست بالضرورة سنية وإنما من مختلف شرائح العراقيين أو استنهاض وجوه قديمة جديدة مثل ناجي طالب وغيره، وقد صدرت بيانات في هذا الإطار. وما لم تظهر قوى عراقية من الداخل تقيم التوازن السياسي مع القوى الوافدة، فإن الاحتلال سيبقى قائماً، وسيكون "عقب أخيل" في جسد النظام العراقي المقبل!
والمشكلة الثانية تتناول طبيعة النظام المقبل، وهنا يتحدث الجميع عن الديموقراطية والفيدرالية ولا أحد يحدد شكل كل واحدة أو طبيعتها، بل إن الخوف حقيقي من "لبننة" النظام العراقي أي أن تصبح "المحاصصة" الطائفية والعرقية عرفاً إذا لم تتحول في أسوأ الظروف الى نصوص ملزمة. والكلام عن "المؤتمر الوطني" لتحديد طبيعة النظام ليست حسب سياسي عراقي سوى حديث عن "مؤتمر طائف عراقي" بمشاركة أميركية قوية وفاعلة ومؤثرة. ويرى هذا السياسي أن مثل هذا المؤتمر ضروري أياً كانت التسمية التي ستطلق عليه، لأنه لا يمكن فرض نظام سياسي من طرف واحد ولا من أطراف متكتلة، حتى أن طرح طبيعة النظام وما إذا كان جمهورياً أم ملكياً، رئاسياً أم لا تبدو عقدة كبيرة. وكل ذلك في وقت يبدو فيه الأكراد أقوى الأطراف الضعيفة. وما الحديث المبكر عن ترئيس مسعود البرزاني على الجمهورية العراقية سوى أحد مظاهر هذا الحضور الكردي الكبير، وفي الوقت نفسه محاولة خبيثة برأي مصادر عراقية عدة لزيادة مخاطر الحساسية الكردية ـ العربية.
والحساسيات ليست محصورة بالحساسية الكردية ـ العربية، فهي جزء من الأخطار الداخلية العديدة التي يدركها الجميع وتتحدث عنها مختلف الأطراف بدقة. وهم يرون أنها أيضاً شيعية ـ سنية، وشيعية ـ شيعية وكردية ـ تركمانية، وآشورية ـ إسلامية. لكن هذه القوى ترى أن "عدم وقوع مذابح على الرغم من التسيب الأمني والسياسي هو علامة إيجابية. كنا نعتقد أن الأيام الأولى ستشهد سقوط عشرات الآلاف من القتلى، لكن ذلك لم يحصل. يومياً يتم العثور على مقابر جماعية ولا تحصل عمليات ثأر، وهذا مهم ويمكن التأسيس عليه. وفي محاولة جدية لعزل الحساسية ضد "السنة العرب" فإنه يتم التشديد على أن النظام السابق لم يكن للسنة وأن القمع طاولهم كما طاول مختلف الأطراف وذلك تبعاً لدرجة معارضة النظام أو مخالفتها. فنظام صدام حسين كان يقيس الانتماء على مقياسه للولاء له أو معارضته فقط.
يبقى أن الخطر الكبير الذي يراه العراقيون، خصوصاً المحافظون منهم هو محاولة إعادة صياغة المجتمع العراقي بمقاييس أميركية وبالسرعة الأميركية. ويقول "صقر أميركي" متواجد في العراق لـ"المستقبل" إن "العراق دولة مفككة، المجتمع فيها مدمر، وكل واحد يخاف من الآخر، والسؤال كيف نُعيد بناء المجتمع العراقي؟".
ويرى عراقيون أن الأميركيين، وتحت مظلة التسيب الأمني، يعملون للتعجيل في تفكيك المجتمع القديم، من خلال رفع درجة الحرية الكاملة من تحت الصفر الى درجة الغليان. فالدش أصبح سعره لا يتجاوز 200 دولار والضخم منه 350 دولاراً. وهذا يتيح رؤية العالم كله على طبيعته، والمشروب الكحولي يُباع في الشوارع مثل الخضر، وأفلام الجنس تعرض في صالات ساحة التحرير تحت أنظار المعارضين والمهددين من دون جدوى، وكل ذلك سيغير من العادات. إضافة الى أنه يجري العمل لتغيير البرامج الدراسية المقبلة بسرعة، كما جرى حذف فقرات وتوجيهات من خطب الجمعة لأئمة المساجد. حتى المدارس التي فتحت ولم تفتح عملياً، وجد طلابها بلاغاً يحض على إلغاء اللباس الموحد، مع رجاء من المدراء والمديرات "باحترام التقاليد والتزام الرداء المحتشم خصوصاً للفتيات". فزمن "حرق" أي قميص مخبأ في محفظة المدرسة استعداداً للمساء قد انتهى!

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00