كل شيء في الجمهورية الإسلامية في إيران "نووي"، من الكرة الإيرانية والتساؤلات الشعبية حول ما إذا كانت أقدام لاعبي الفريق الوطني ستكون في المونديال "مخصّبة" الى درجة كافية لإطلاق "كرات نووية" لا ترد في شباك منافسيهم، الى المصور في "بارك ملت" (حديقة الشعب) الذي يدعو المتنزهين لأخذ "صورة نووية" لهم. فالإيراني العادي قبل المسؤول يعيش منذ وضع الرئيس أحمدي نجاد هذا الملف قيد التداول اليومي، على وقع التطورات المصاحبة له. بدورهم فإن المسؤولين يتحركون على مثال "أوركسترا" مكتملة ودقيقة في أدائها، حتى لا يقع أي "نشاز" يربك "قائدها".
لعبة الشطرنج
وهذا الانضباط الحديدي في الأداء اليومي، يعود كما يقول مصدر إيراني مثقف الى "ان الإيراني بطبعه مشروع مساومة، فكل شيء لديه قابل للحوار والتفاوض". ولذلك فإن الحوار المفتوح مع الولايات المتحدة الأميركية ليس وليد الساعة. ومقدماته القديمة عديدة وقد تكون بداياتها مع زيارة مكفرلين الشهيرة في عزّ الحرب الإيرانية ـ العراقية الى طهران. ويرى مصدر مطلع"، أن مباحثات خافيير سولانا مع علي لاريجاني الممسك بالملف الإيراني، هي مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية معاً. ذلك ان طهران التي فاوضت الترويكا الأوروبية، كانت تنتظر دخول الطرف الأميركي على خط الحوار. ومن هنا فإن المفاوض الإيراني كان يلعب "البلياردو" أي يصوب على الطابة الزرقاء، ليصيب الطابة الحمراء. وهذا التصميم الإيراني على جر واشنطن الى الاصطدام بها مباشرة، يعود الى علم طهران الأكيد أن واشنطن وحدها التي تقدم الضمانات. بينما الأوروبيون يقدمون ولا يضمنون".
وفي إطار المفاوضات فإن السفير الإيراني محمد ظريف الذي حاور الأميركيين مطولاً، كان يقوم بذلك بضوء أخضر من القيادة مباشرة. والحوار اليومي بين السفيرين الأميركي والإيراني في أفغانستان لم يكن أفغانياً فقط. وفي الوقت نفسه كانت توجد قنوات عديدة أخرى سواء عبر قبرص أو جنيف مفتوحة، لكن المشكلة الكبيرة كانت أن واشنطن أرادت دائماً أن تفرض شروطها لأنها هي الأقوى، بينما لم يكن يملك الإيرانيون سوى عنادهم وصبرهم وقدرتهم على تحريك "بيادقهم" أو "أحصنتهم" على رقعة الشطرنج الكبيرة بحذر متجذر وشديد اليقظة".
وتجمع مختلف الأوساط المطلعة من محافظين ومتشددين أن الرهان على الوقت، سمح للإيرانيين بالربح. ويضيف هؤلاء "ان الرئيس جورج بوش قدم لهم هديتين الأولى في أفغانستان عندما أطاح بحكم الطالبان وخبر عبر التعاون معهم مدى انتشارهم وحضورهم وقدراتهم فيها، والثانية في العراق عندما أسقط حكم صدام حسين ليكون الجنوب العراقي في البداية ساحة مفتوحة أمام حركتهم فتحول الحضور المستور الى تواجد علني سرعان ما تمدد وتغلغل في أنحاء العراق من النجف الى كردستان مروراً ببغداد".
التفاوض الميداني
واذا كان يمكن الكلام عن مراحل في المفاوضات غير المباشرة والمباشرة، فإن الحلقة القوية فيها كما تجمع المصادر نفسها هي "التفاوض الميداني في الساحات الساخنة. فالإيرانيون والأميركيون تفاوضوا بالنار في كل مرة أراد كل طرف اختبار الآخر. ومن ذلك أن التصعيد في أفغانستان فاجأ الكثيرين، لكن من يعرف ما معنى وصول حكمتيار بكل شرعيته التاريخية والقبلية من طهران الى أفغانستان، يعرف جيداً لماذا تصاعدت حدة المواجهات. ومن يعرف حساسية وخطورة اللعب في منطقة بلوشستان الإيرانية يدرك أيضاً أن الأميركيين لم يتركوا "الرسالة" بلا ردّ. كذلك في العراق ما أن اشتعلت في منطقة الأهواز الإيرانية حتى جاء الرد سريعاً "في البصرة". وبذلك فإن واشنطن فهمت جيداً أن متابعة المواجهة ثم الدخول في الحرب سيؤدي بالتأكيد الى انهيارات في الاستراتيجية الأميركية على طول "القوس" الممتد من أفغانستان الى العراق وأساساً ما يعني ذلك من نتائج على مجمل خريطة الشرق الأوسط الكبير.
هذا "التفاوض الميداني"، سبقه ورافقه دائماً "وعي إيراني كامل لخيارات الحرب والسلام. وهذا الوعي تضمن معرفة واقعية بأن احتمال الانتصار العسكري ضد الولايات المتحدة يساوي صفراً. وإضافة الى ذلك فإن إيران قد تعود الى عصر الفحم الحجري بدلاً من أن تتقدم خطوات من العصر النووي. وفي الوقت نفسه فإن واشنطن ادركت أنها وإن كانت تملك وسائل غير محدودة فإن الهدف الأساسي الذي تريده لن يتحقق وهو استعادة إيران الى فلكها". وبهذا الوعي من الجانبين للإمكانات وللنتائج، خطا الأميركيون والإيرانيون خطوة واسعة نحو التفاوض العلني.
وعلى هذه القاعدة جرى بناء ما يجب التوصل اليه. وبداية فإن إجماعاً واضحاً من جميع التيارات الإيرانية في السلطة وفي المعارضة، بأن إيران لا تريد حالياً تصنيع قنبلة نووية، لأن الإيراني غير مقتنع بامتلاك هذا السلاح الردعي، ولأن كلفة المحافظة عليه أكبر من تصنيعه، والأهم أن عائد الإنفاق على تصنيع السلاح النووي هو صفر كما أنه إنفاق ضخم يعيق مشاريع التنمية الشاملة والواسعة والملحة في العمق الإيراني لمنع اللعب من الخارج على غياب التنمية المتوازنة بين الأقاليم والعرقيات. وأخيراً فإن المجتمع الإيراني لا يميل الى الحرب بعد أن عانى من نتائجها مع العراق".
التأميم قبل الانتاج
وفي إطار هذا التفهم الواقعي جداً، فإن القيادة الإيرانية أرادت من التسريع في الإعلان عن نجاحها بتخصيب الأورانيوم "تأميم هذا المصدر الانتاجي على غرار ما فعل مصدق مع النفط، كما يقول مثقف إيراني إصلاحي، لكن مع فارق مهم وهو أن التأميم هنا يتم قبل الانتاج، حتى تصبح المراحل الأخرى واقعة في دائرة من الأمن والأمان. ومما ساهم في هذه الاندفاعة أن إيران امتلكت في وقت واحد فائضاً من الأورانيوم الخام ومن العلماء والخبراء الإيرانيين، والتكنولوجيا التي بعضها جرى استيراده سراً أو علانية، وأموال عائدات النفط الضخمة. وبهذه "الثروات" أرادت إيران تحقيق "الانعتاق النووي" الذي تبدو ثماره أكبر بكثير من كلفته لأنه يعني ضمان الطاقة الضخمة مع المحافظة على الثروة النفطية والغازية، وبدء مرحلة تصنيع حديثة تعتمد التقدم العلمي في المجال النووي تلغي الكلفة الضخمة للاستيراد الى جانب عوائد التصدير في ما بعد. وعن تأميم "الطاقة النووية" يقول مصدر اقتصادي مطلع في طهران "إن واشنطن تريد أن تضع يدها في السنوات القليلة المقبلة على نصف صادرات الاورانيوم المخصب المنتج في العالم، مما يمكنها من التحكم بأسعاره وحركته كما تفعل الآن بالنسبة للنفط والغاز، ونحن بهذا الامتلاك للطاقة النووية نصبح خارج دائرة التحكم الأميركية المستقبلية".
يعترف مصدر إيراني متشدد "ان زمن تصدير الثورة انتهى، لأن الثورة أصلاً انسحبت لمصلحة الدولة، وهذا التحول الى جانب تحولات وطموحات إيرانية واقعية، تطمئن الأميركي وتجعله يبتعد في نظرته الى إيران كدولة مارقة مثلما أن إيران اليوم لم تعد تتعامل معه كالسابق بأنه الشيطان الأكبر".
وأمام حل هذه العقدة التاريخية التي كانت قد بدأت مع الثورة بزعامة الإمام الخميني، فإن الحوار يصبح مشروعاً ومفتوحاً على كل شيء، وبدايته من العراق حيث المساكنة الجغرافية تفرض هذه الأولوية. والحصول على الطاقة النووية بحيث أن التخصيب لن يتجاوز في أقصى حالاته 9% وبشفافية كاملة وتحت مراقبة دولية ـ أميركية واسعة، وأن يتم الاعتراف بدورها كقوة عظمى في المنطقة. وهذا الدور يبدأ من حدود بحر قزوين وصولاً الى البحر المتوسط. ولعل أكبر الجوائز في هذا الحوار هو تسليم واشنطن بشرعية النظام في إيران.
"السلة" الأميركية
هذه هي المكاسب الإيرانية ولكن ماذا عن الولايات المتحدة الأميركية؟
يرى مصدر إيراني خبير بالشؤون الاستراتيجية "أن التفاوض يتم دائماً في مثل هذه الحالات على "سلة" استراتيجية متكاملة ولذلك فإن الاتفاق الأساسي يكون من جانب الأميركيين:
* طبيعة النظام الاقليمي الجديد في المنطقة.
* مسار السلام في الشرق الأوسط ووضع إسرائيل منه.
* الاقتصاد الاقليمي.
والتفاوض على هذه "السلة" ما زال في بداياته، لكن لا شك أن إيران لن تسمح لأي طرف حتى ولو كانت حليفتها سوريا بالدخول مباشرة على طاولة المفاوضات فهي التي تفاوض عنها وعن الآخرين. ومن الطبيعي أن النتيجة الأولى لذلك هي إلغاء الأدوار الاقليمية الأخرى وبخاصة لسوريا، أما النتيجة الثانية فإن طهران التي تعتبر "حزب الله" ابناً شرعياً لها وأنه مع حركة حماس يشكلان "الحديقة الخلفية لحركتها" فإنها مضطرة حكماً لاخذ الواقع الاستراتيجي الجديد في حساباتها. ولذلك فإن خطاباً سياسياً نابعاً من هذا التحول سيفرض نفسه على المدى الطويل، وفي كل مرة يتقدم فيها الحوار خطوة نحو التوافق فالاتفاق، ولذلك فإن نتيجة كل ذلك هو "تخفيف التوتر على كل المحاور".
غياب العرب عما يجري يريح طهران لأنه يجعلها اللاعب الوحيد، لكن كما يقول متعرب إيراني، يزعجها في الوقت نفسه لأنها كانت تفضل التعاون والمساندة، ويأمل هذا المستعرب أن يرى العرب في الصمود الإيراني أمام الضغوط الأميركية مثالاً يمكن التأسيس عليه، فإيران تحاشت الوقوع في الخطاب الصدامي القاتل من جهة، وفي الابتعاد عن المثال الليبي المسلّم بكل شيء من جهة أخرى.
إيران كانت تاريخياً "الشرطي التابع" للولايات المتحدة الأميركية، ولذلك لم تخرج واشنطن من "أوهام" استعادة هذا "الشرطي". وفي ظل هذه الرغبة تتحرك الآن. لكن بين استحالة هذه "العودة" وإمكانية التوصل الى حل مقبول، فإن الممكن هو كما يرى مصدر إيراني إصلاحي هو أن تصبح إيران "شرطياً شريكاً" في المنطقة.
"يبقى أن الخطر الكبير الذي يمكن أن تسقط فيه إيران كما يقول المصدر نفسه هو أن تصاب بأوهام القوة فتقع في انزلاقات غير محسوبة، لتحل بها الكارثة التي عملت على تجنبها منذ البداية".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.