خيرالله خيرالله

12 كانون الثاني 2020 | 20:46

كتب خيرالله خيرالله

بصمات قابوس

المصدر: خاص-مستقبل ويب

قلائل الزعماء في المنطقة العربية الذين تركوا بلدانا قابلة للحياة والتطور من جهة وان تكون على تماس مع كلّ ما هو حضاري في هذا العالم من جهة اخرى. اسّس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان دولة الامارات العربية المتّحدة وبناها. وبنى الملك حسين الأردن الحديث. في المقابل لم يترك القادة الثوريون من نوع جمال عبد الناصر او معمّر القذّافي او صدّام حسين او حافظ الأسد او هواري بومدين سوى الخراب. باستثناء مصر التي تحسّن وضعها في عهد الفتاح السيسي، يصعب الرهان على أي مستقبل مزدهر لليبيا او للعراق او لسوريا وحتّى للجزائر، اللهمّ الّا اذا حصلت معجزة في عالم بات يصعب فيه الكلام عن معجزات.

ترك السلطان قابوس الذي صعد الى العرش في العام 1970 وتوفّي قبل ايّام بصماته الايجابية. ترك بلدا حديثا وآمنا ومستقرّا قابلا للحياة يمتلك مؤسسات قويّة وبنية تحتية متطورة. ترك دولة حقيقية. امام هذه الدولة تحديات كثيرة، لكنّها تبقى دولة بكلّ معنى الكلمة وليس جهازا امنيا وشعارات لا تمتّ الى الواقع بصلة. تدل على ذلك السلاسة التي تمت بها عملية انتقال العرش من قابوس الى ابن عمّه هيثم بن طارق الذي اختاره قابوس بنفسه ليكون خليفته. قد يكون ذلك عائدا الى ان هيثم بن طارق رجل منفتح احتكّ بالعالم الخارجي باكرا وكان بين الذين درسوا فيه في سبعينات القرن الماضي. كان طالبا داخليا في لبنان في مدرسة "برمانا هاي سكول" المعروفة التي كان يقصدها طلاب ينتمون الى النخبة العربية من المحيط الى الخليج.

لعلّ الصفات الاهمّ التي تمتع بها السلطان قابوس هي الجرأة والحكمة والتسامح وبعد النظر في الوقت ذاته. لم تكن لديه عقدة الأجنبي. فعندما كانت عدن تحت الحكم البريطاني حتّى العام 1967، كان يتوقّف فيها كي ينتقل الى لندن بحرا لمتابعة الدراسة. كان يقول انّ طموحه ان تصبح مسقط مثل عدن في يوم من الايّام. اين مسقط اليوم وأين عدن منها؟

في السنوات الخمسين، بين 1970 و 2020، التي كان فيها قابوس سلطانا لعُمان، شهد البلد ثورة حقيقية على كلّ صعيد. كانت ثورة بالمعنى الايجابي للكلمة. هناك الآن بلد يمتلك كلّ مقوّمات الحياة، في حين لم يكن يوجد في عهد والد قابوس السلطان تيمور سوى مدرستين وطريقين معبّدين في مسقط كلّها. تجلّت الحكمة التي يتحلّى بها قابوس باكرا عندما استطاع التعاطي مع التمرّد في اقليم ظفار الذي يشكل ثلث مساحة السلطنة. لم يجد مشكلة في الاستعانة بخبراء بريطانيين او بجنود إيرانيين ارسلهم الشاه... او بوحدات خاصة اردنية ساعدت في جعل الحكومة العُمانية تستعيد المبادرة في اقليم ظفار الذي مساحته مئة الف كيلومتر مربّع.

كان واضحا انّ ثورة ظفار كانت جزءا من الحرب الباردة التي تخللتها محاولة من الاتحاد السوفياتي لايجاد موطئ قدم اكبر في شبه الجزيرة العربية، بما يتعدّى حدود اليمن الجنوبي الذي صار دولة مستقلّة منذ العام 1967. لم يلجأ السلطان قابوس الى الانتقام بعد القضاء على التمرّد ومحاصرته. على العكس من ذلك، اعتمد سياسة تقوم على الاستيعاب. فاعتباراً من العام 1974 بدأ المتمردون يتراجعون حتى أصبحوا شبه محاصرين في الجبال والمناطق النائية وراح دعم قبائل ظفار لهم يتقلص بشكل واضح خصوصا بعدما تبنى التمرد المبادىء الماركسية. كان ردّ فعل السلطان ان أصدر عفواً عاماً عن المتمرّدين فسلم المئات منهم أنفسهم من بينهم مطلق التمرّد مسلم بن نفل. عندئذ، عفا عن جميع المعتقلين الذين صدرت بحقهم أحكام بالاعدام والسجن المؤبد أو لفترات طويلة .في موازاة العفو، أنشأ السلطان قوات عسكرية شبه نظامية تحت اشراف الحكومة سماها قوات الفرق الوطنية. ضم الى هذه الفرق المتمرّدين ورجال قبائل اقليم ظفار. رفض مسلم بن نفل تسلم قيادة هذه القوات رغم الحاح السلطان قابوس، كما رفض أي منصب وزاري وعاش بقية حياته في ظفار مواطناً عادياً حتى وفاته عام 2013. ترافق ذلك مع اطلاق السلطان ورشة عمرانية في اقليم ظفار مستعيناً بخبراء ومهندسين من بريطانيا وايران وباكستان والأردن ولبنان. لم يتردد في جعل عدد من المتمردين وزراء في حكومته. من بين هؤلاء يوسف بن علوي وعبد العزير الروّاس.

سمح الوضع الداخلي لقابوس بان ينقل جرأته الى السياسة الخارجية. لذلك كان لافتا موقفه المتحفظ من القطيعة العربية مع مصر بعد زيارة أنور السادات للقدس في خريف العام 1977  ثمّ انعقاد القمّة العربيّة في بغداد بضغط من البعثين السوري والعراقي في 1978. لم تتمثل السلطنة في قمّة بغداد سوى بوكيل وزارة الخارجية...

لم تقطع السلطنة خيط معاوية مع مصر. اضطر العراق الى اللجوء اليها من اجل التوسط مع أنور السادات كي تزوده مصر معدات عسكرية كان في اشد الحاجة اليها في مرحلة ما بعد اندلاع الحرب مع ايران في العام 1980. لم يؤد ذلك الى تغيّر في العلاقات العُمانية – الايرانية التي هي من الثوابت في السلطنة. بقيت السلطنة، التي تشارك ايران في الاشراف على مضيق هرمز تؤمن بان العلاقة معها ليست قضية اشخاص، بل قضية مرتبطة بالجوار الايراني والجغرافيا. ما يؤكد ذلك الدور الذي لعبته السلطنة في تسهيل التوصل الى الاتفاق في شأن الملف النووي الايراني الذي وقع صيف 2015.

يمكن الحديث طويلا عن التميّز العُماني والقدرة على اعتماد سياسات مختلفة داخل مجلس التعاون لدول الخليج العربية، خصوصا عندما يتعلّق الامر باليمن والعلاقة بالحوثيين وحتّى بإسرائيل. استقبل السلطان قابوس رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في تشرين الاوّل – أكتوبر 2018 في مسقط. لم تنبس ايران ببنت شفة. بدت راضية عن وجود "دولة الرئيس" بنيامين نتانياهو في عاصمة سلطنة عُمان وممتنة لذلك الوجود!

هل كانت مسيرة قابوس من دون شوائب؟ بالطبع لا. ادار الرجل، عاشق الموسيقى الكلاسيكية، السلطنة في السنوات العشرين الاولى من عهده بدقّة متناهية واضعا معايير صارمة وخطوطا عريضة كان يشرف على تنفيذها بنفسه. هناك منذ ما يزيد على عشر سنوات مظاهر ترهّل للنظام الذي اعتاد المسؤولون فيه على خريطة طريق لا يزيحون عنها.

أي دور سيكون للسلطان الجديد هيثم بن طارق في إعادة الحيوية الى أجهزة الإدارة العُمانية وهل ستكون لديه القدرة على تطوير السياسة الخارجية بعيدا عن عقد معيّنة لدى اشخاص معروفين في مرحلة يتغيّر فيها كلّ شيء في المنطقة، بما في ذلك في ايران نفسها؟   


يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

خيرالله خيرالله

12 كانون الثاني 2020 20:46