29 كانون الثاني 2020 | 22:34

خاص

الأكلات الشتوية في السهرات البيروتية...

المصدر: زياد سامي عيتاني



*زياد سامي عيتاني

الجزء السادس والأخير: "الرشتة".

"الرشتة" أكلة الأباء والأجداد التي تجمع بين بساطتها وطيبتها، هي من أقدم المأكولات البيروتية إن لم نقل أقدمها على الإطلاق. لم يسَع الجيل الجديد التعرّف إليها ربّما بسبب إنقراض هذا النوع من المأكولات التي باتت اليوم تتخذ طابعًا تقليديًّا تذكاريًا بحت، خصوصاً في ظلّ الغزوة الأجنبيّة لثقافة المائدة اللبنانيّة من جهة، وبسبب الوقت والجهد الذي يتطلبه تحضيرها من حهة ثانية.

فالرّشتة طبقٌ تراثيّ شعبيّ بيروتي يتم إعداده بكثرةٍ في فصل الشّتاء، وكان رفيق البيروتيين في سهراتهم الباردة، لكي تزودهم بالطاقة التي تساعدهم على مقاومة قساوة الشتاء و"زمهريره" وصقيعه...

•طقس تحضير عجين "الرشتة":

"الرشتة" هي عبارة عن عدس مسلوق وبصل مفروم وزيت زيتون وبهارات، إلا أن العجين هو الركيزة الأساسة لتحضيرها، خصوصاً وأن إعداد العجين كان أشبه بطقس يدوي تقليدي، حيث كانت النساء تفترش بساطاً بلاستيكياً ملوناً، تضع عليه لوحة خشبية خاصة لـ"رق" العجين و"دعمه" براحة الكف ذهاباً وإياباً، ومن ثم "تقريصه" حتى يصبح أشبه بحبل يصل طوله إلى حوالى ٦٠ سنتمتراً، سرعان ما تعمدن إلى تقطيعه بسكين صغير، قطعاً صغيرة لا يتجاوز طولها ١٠ سنتمرات. ولكي يقمن بذلك من دون أن تلتصق القطع بعضها ببعض، ينثرن عليها الدقيق بوفرة، لتشكّل فوقها طبقة لا بأس بسماكتها.

•أصل "الرشتة":

"الرشتة" ليست معروفة حصراً في بيروت ولبنان، بل هي طبق مشهور وحاضر في كثير من البلدان العربية، حيث تتنوّع طرق إعداده نظراً لطبيعة البلد، إلّا أنّها جميعها تشترك في رقاقات العجين التي يتم عجنها دون تخمير وتُرق عدّة مراتٍ وتُرش بالدّقيق، وتُقطّع طولياً وتُترك لتتنشّف ويتم طهيها.

يعتقد كثيرون أن "الرشتة" ذات أصول تركية، غير أنّ هذا ليس صحيحاً تماماً، إذ إنّ أصل التسمية في حدّ ذاته يعود إلى أصول فارسية وتحديداً إلى كلمة "تارشتا". و"رشت" تعني الخيط. ولا تزال إلى يومنا هذا تُدعى "تارشتا" في مدينة تلمسان أقصى غرب الجزائر. كما يتمّ تناولها في بعض المدن التونسية، مع الإشارة إلى أن "الرشتة" يتم تناولها في الجزائر كطبق خاص في بعض المناسبات الدينية، خصوصاً في عيدي الفطر المولد النبوي الشريف.

في الواقع لا توجد مصادر تاريخية تحدّد تاريخها بشكل دقيق. إلا أنّه ورد ذكرها في كتاب المؤرخ ومؤسس علم العمران، عبد الرحمن بن خلدون.


وتقول الحكاية إن ابن خلدون توجه إلى بلاد الشام في العام ٨٠٣ هجرية، إلى القائد المغولي المسلم تيمورلنك، كسفير دبلوماسي لطلب السلام، فدوّن رحلته هذه في كتابه "تاريخ ابن خلدون".

وقد ورد في الصفحة ٤٨٠٤ من طبعته الصادرة عن "دار الفكر" في بيروت الفقرة التالية:

..."ثم أشار إلى خدمه بإحضار طعام من بيته يسمونه "الرشتة" ويُحكمونه على أبلغ ما يمكن، فأُحضِرت الأواني منه و أشار بعرضها عليّ، فمثلتُ قائماً وتناولتها وشربت وإستطبت، وقع ذلك منه أحسن المواقع، ثم جلست وسكتنا"...



بالرّغم من قلّة إعداد "الرشتة" هذه الأيّام إلّا أنّ هنالك الكثيرون يعشقون هذا الطّبق الذي يشكل شكلاً من أشكال ثقافتنا الغذائية العريقة والمتنوعة، حيث ما زال يُزيّن موائدهم في فصل الشّتاء، خصوصاً وأنه يعد تراثاً مشتركاً بين المشرق والمغرب العربي وبلاد فارس وتركيا...




-إنتهى.

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

29 كانون الثاني 2020 22:34