12 شباط 2020 | 08:41

صحافة بيروت

رفيق الحريري والثورة الهادئة (3)

رفيق الحريري والثورة الهادئة (3)
المصدر: مصطفى علوش - الجمهورية

‏«كل يوم لك احتمال جديد

ومسير للمجد فيه مُقام

إذا كانت النفوس كبيرة

تعبت في مرادها الأجسام»‏

‏(المتنبي) ‏

لا بدّ أنّ الأسى كان يغمر قلب رفيق الحريري عندما كان يُرغم على معالجة صغائر الأمور ‏المتعلقة بزواريب السياسة اللبنانية على مدى ربع قرن من حياته في الشأن العام. فعلى رغم من ‏جسامة المهمات الملقاة على عاتقه، فإنّه كان يعلم، أنّ حتى أتفه الأمور كان فيها القدرة الكامنة ‏على إعاقة حتى أهم المشاريع ذات الأبعاد الوطنية والقومية وحتى العالمية، في ظل الوقائع ‏المحلية والإقليمية الشوهاء. لذلك، فقد كان عليه، وشخصياً في كثير من الأحيان، التعامل مع ‏مسائل قد تبدأ في حَرَدِ ضابط مخابرات، إلى حساسيّة زعيم محلي، إلى استكبار مرجع طائفي، ‏إلى ما هنالك من تفاصيل لا مكان لها في عالم السياسة، وإن كانت في لبنان تُسمّى سياسة. كان ‏رفيق الحريري يعالج معظم تلك الأمور من جيبه الخاص، على أمل أن يأتي يوم يخرج البلد ‏واقتصاده من الأسر. لقد أُجبر الرئيس الشهيد على التعامل مع التفاصيل المتعبة بتفاهتها، ليحمي ‏الرؤيا المستقبلية والمهمات الكبرى الملقاة على عاتقه، هذه المهمات هي التي شكّلت البُعد الآخر ‏لرفيق الحريري.‏

كانت قيادة الرجل لتحدّي السلام المحتمل الذي كانت بشائره واضحة من خلال مؤتمر مدريد ‏مهمة كبرى. لقد كان التحدّي هو كيفية إعداد لبنان ليكون رأس الحربة العربية في مواجهة ‏مشاريع الهيمنة الإقتصادية والثقافية للكيان الصهيوني. وقد دخل رفيق الحريري في سباق ‏محموم، تمثّل في ورشة الإعمار والتحديث التي أطلقها منذ العام 1992. وضع نصب عينيه بناء ‏اقتصاد متين ومتنامٍ في لبنان، ليكون نواة المشروع الإقتصادي العربي الذي ستستفيد منه سوريا ‏مباشرة، ولكن من خلال شراكة حقيقية كان يمكن أن تُدخلها، وبقوة، في عملية إنماءٍ لا سابق ‏لها، نظراً الى المميزات التفاضلية المتعددة للبنان وسوريا معاً، في حال تكاملا من دون هيمنة ‏طرف على آخر ومن دون استغلال أحدهما للآخر.‏

‏ ولكن، عملية السلام انهارت في أواسط التسعينات، وتوقف معها انفتاح النظام السوري، المتعثر ‏أصلاً، نحو الحداثة ونحو التوجّهات الديموقراطية، والتي هي أساس أي نمو إقتصادي. وقد أدّى ‏ذلك أيضاً إلى عودة سيطرة التوجّهات الأمنية والمخابراتية إلى خيارات السلطة في سوريا، ما ‏أنتج عملياً ما سُمّي النظام الأمني اللبناني - السوري.‏

‏ ما حدث خلال حرب «عناقيد الغضب» عام 1992 وانتهى بإرساء تفاهم نيسان، فتح أعين ‏المنظومة الأمنية على رفيق الحريري ودوره ومدى علاقاته الدولية. هنا تداخلت الريبة مع الحسد ‏لنصب جبهة متنوعة لمواجهته. من جهة بدأت عملية الحصار السياسي والإبتزاز المالي ‏والإقتصادي، ومن جهة أخرى بدأت حملات التشكيك والتخوين. وعلى رغم من اعتراف ‏القاصي والداني بدور رفيق الحريري في تشريع المقاومة، رفض «حزب الله» الإعتراف بهذا ‏الدور الذي نُسب كلياً الى وزيري خارجية سوريا وإيران «العبقريين»، وذلك حسب ما قاله نعيم ‏قاسم في كتابه عن «حزب الله».‏‎ ‎‏ ولكن، وفي الوقت نفسه، بدأت تلوح في الأفق الدولي والإقليمي بوادر أزمة جديدة تمثلت في ‏بروز نوع جديد من التهديدات الإرهابية للنظام العالمي من خلال المجموعات الأصولية السنيّة، ‏والتي أصبح تنظيم «القاعدة» الممثل الأبرز لها. وكانت الإدارة الأميركية تعتبر الأصوليات ‏الشيعية الخطر الاكبر عليها على مدى عقدين سابقين، منذ احتلال السفارة الأميركية في طهران ‏عشية انتصار ثورة ولاية الفقيه في إيران، مروراً بسلسلة دموية من العمليات الإرهابية الكبرى، ‏والتي كان لبنان المسرح الأهم لها. ولكن، عمليتي كينيا المشهورتين، والتي طاولت إحداهما ‏السفارة الأميركية، دفعتا الإدارة الأميركية إلى إعادة ترتيب أولوياتها، بحيث أصبحت الأصوليات ‏السنّية تشكّل التهديد الإرهابي الأول للإدارة الأميركية. ‏

ما بدأ التخطيط له عام 1996 لتهميش رفيق الحريري أثمر عام 1998 وصول اميل لحود رئيساً ‏للجمهورية، ما أدّى الى إقصائه عن رئاسة الوزراء بأحبولة معروفة، من بعدها بدأت حملة ‏تشويه الصورة مقرونة بتخريب كل ما أنجزه الحريري في كل المجالات بكيدية ركيكة، كانت ‏حكومة الرئيس سليم الحص إحدى أدواتها.‏

‏ أدّت السياسات الكارثية لتلك الحكومة، تحت شعار التقشف ومحو آثار الحريري، إلى تدهور ‏الوضع الإقتصادي في لبنان وبالتالي ضمور ما يمكن للمنظومة الأمنية اللبنانية - السورية ‏استنزافه، كما أنّ الحملة السياسية الأمنية القضائية الركيكة ضده أثبتت فشلها في شيطنته، لا بل ‏على العكس، فقد زادت شعبيته. هنا اضطر معسكر مواجهة الحريري للإعتراف بخسارته ذاك ‏الجزء من المعركة، فعاد رفيق الحريري ليخوض غمار معركة جديدة عام 2000 بعد انتصاره ‏في الإنتخابات النيابية... والبقية تأتي...‏

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

12 شباط 2020 08:41