زياد سامي عيتاني
من نافذتي شبه المغلقة إحترازياً من كل أنواع الأوبئة والتلوثات الفتاكة من جرثومية وبيولوجية وسياية(!)، أتسلل بنظراتي خلسة، أشاهد هذا الحزن العظيم الذي يخيم على "عين المريسة" منطقتي، كأنها بإنكماشها وإنطوائها تختزل مساحة الوطن بأسره، إسوة بهذا الكوكب "المكورن" بما جنته الكائنات المتوحشة التي فتكت به بكل إجرام، وبلا رحمة...
كم هو صعب تحمل هذا الكم الهائل من الكآبة المترامية على كل تفاصيل الحياة اليومية المعتادة!!!
*
لا نشتم رائحة الصباح عند الضحى مع بزوغ شمس الأصيل المفعم ب "يود" البحر ونحن نحتسي قهوتنا، كما إعتدنا؛ بل إن رائحة مساحيق التعقيم والتطهير التي تتطاير مع الهواء الهائج قبيل الربيع تملأ الجو "الموبوء"، وتزكم الأنوف(!)
*
ميناء الصيادين لأول مرة يكون مهجوراً، خلت من "الرياس والصيادي"؛ مراكبهم رفعت إلى البر (هذا فأل شؤم في ثقافتهم البحرية)، كأنها إستسلمت لهذا "الفيروس" اللعين؛ الشباك الموضوعة في "القفف" السوداء يبست ونشف عليها ملح البحر، التي إشتاقت لمياهه؛ الأقفاص علاها الصدأ؛ غرفهم مقفلة، لا جليس ولا ونيس ولا أنيس، غابت قرقعة أصوات أراكيل الصيادين خلال فترة إستراحتهم، قبل أن يسرحوا في البحر، بحثاً عن قوت يومهم، وإختفى صراخهم الذي كان يعلو عندما كانوا يلهون بلعب "دق ورق"؛ براد الأسماك الخاوي ذاب ثلجه، فلا رزق ولا من يرزقون(!)
*
الكورنيش البحري متروك للأمواج العاتية التي تلاطم الصخور الدهرية، تعبيراً عن غضبها من خلوه من رواده الذين تربطهم به ألف قصة وقصة؛ فممارسو الرياضة الصباحية والمسائية إختفوا؛ الذين إعتادوا شرب كوب "النيسكافيه" أمام "الدرابزين" الحديدي وهم يتأملون البحر بنظرات شاعرية، هجروه؛ صيادو "القصبة" و"المولينة" الذين كانوا يقضون ساعات وساعات وهم يرمون "سنراتهم" في عمق مياه البحر، ليتعلموا منه الصبر، ويرمون فيه هموم سنين عمرهم المتراكمة، تواروا إلى المجهول...
*
آذان الجمعة لم يرفعه كما من جرت العادة من عشرات السنين الحاج أحمد ولا الحاج سامي، بل علا صوت الآذان مسجلاً، فيه بحة مؤلمة، من جامع مقفلة أبوابه ومنطفئة أنواره، يدعو المصلين لتأدية صلاتهم في منازلهم، وأن يتضرعوا للرحمن بأن يرفع عنا البلاء والوباء والداء... لن يلتقي أبناء "المحلة" من كل الأجيال والأعمار من مقيمين فيها وخارجها على عادتهم خلال صلاة الجمعة، التي هي وحدها بقيت تتكفل بلقائهم، فالجمعة بلا جماعة وأذان بلا إقامة(!)
*
منطقتي معتمة مظلمة في وضح النهار؛ يخيم صمت قاتل "كالفيروس" نفسه؛ وكأن مساحة القبور توسعت وتمددت، بعدما صارت أشبه بمدينة منكوبة،خاوية من كل نبض للحياة، ما عدا ظلال الأشباح...
ولأننى لا أقوى على روئة منطقتي بلا حياة؛ أقفلت النافذة، ودخلت مجدداً إلى غرفة الحجر الإلزامي وحبس الأنفاس في زمن قطع الأنفاس!!!