أخبار لبنان

القضاء على السياسات الحريرية بالمزيد من السياسات الحريرية

تم النشر في 4 أيار 2020 | 00:00

كتب مصطفى علوش في  صحيفة "الجمهورية": ‏

‎«‎وتمضي المواكب بالقادمين من كل لون وكل مجال فمن عصر مينا إلى عصر عمرو ومن ‏عصر عمرو لعصر جمال وكل تساءل في لهفة أين؟ ومن وكيف إذن؟ أمعجزة ما لها أنبياء؟ ‏أدورة أرض بغير فضاء؟» كامل الشناوي

منذ بضعة أيام مررت في وسط بيروت إلى جانب ضريح رفيق الحريري، أبطأت قليلاً لأنزل، ‏لكنني لاحظت العوائق الموضوعة، فأكملت طريقي ولم أتمكن من كتم دمعة نزلت على ذكرى ‏ذاك الذي احترق في حياته، واحترق في مماته، وما زالت روحه تحترق حزناً على هذا البلد ‏الذي ظنّ أنّه بعناده وصبره، كان قادراً على الولوج به وبشعبه إلى برّ الأمان، في منطقة ما ‏زالت الأعاصير تضرب بها. ففي مثل هذه الأيام في رمضان، كنا نجتمع حوله على موائد ‏الإفطار، لنسمع منه خطابات الأمل والتفاؤل والتشجيع على المزيد من الجهد والعمل، لأنّ «البلد ‏ماشي والشغل ماشي والحكي ماشي...». كانت أيام مفعمة بالتفاؤل، وكان كثيرون منا يظنّ أنّ ‏صمام الأمان هو رفيق الحريري، فوجوده كان الضمانة بأنّه كان سيجترح حلاً ما لكل شيء‎. ‎

سقى الله تلك الأيام، فذاك الرجل لم يكن يحمل عقدة دونية بالرغم من تاريخه الخاص، وما حماه ‏من ذلك هو قناعته بأنّ الحقد على الظروف الشخصية يعمي القلب ويمنع الإنسان من الإنجاز‎.‎

لأنّ الشيء بالشيء يُذكر، فإننا اليوم في عهد لا يحمل إلّا الحقد على نجاح الغير، ومزيج ‏معروف من عقدة نقص أظهرت نفسها في متلازمة جنون العظمة، وهي حسب العالم النفساني ‏أدلر، فإنّ كل إحساس زائف بالعظمة يحمل في طياته إحساساً دفيناً بالدونية. ومن مظاهر الدونية ‏هي الإحساس بضآلة الحجم والموقع في التاريخ، ومن هنا يلجأ هؤلاء إلى، إما تزوير التاريخ، أو ‏الذهاب إلى عرض انتقائي لبعض أحداثه لتأكيد الذات، أو الذهاب إلى تشويه تاريخ الآخرين ‏لمجرد تغطية الفشل الذاتي بكونه نتيجة لفشل آخرين. وفي مراجعة للانتقائية التاريخية في عالمنا ‏العربي، تلك القصيدة المبدعة للشاعر كامل الشناوي، الذي نظّمها لمدح جمال عبد الناصر، ‏فاختصر تاريخ مصر العظيم والملون بالفراعنة واليونانيين والمسيحية والإسلام بثلاثة أسماء‎.‎

ما لنا ولكل ذلك الكلام الآن؟ فالموضوع هو الإنجاز «التاريخي» للعهد بإعلان الخطة ‏الاقتصادية، والادّعاء بأنّه سابقة في تاريخ العهود والحكومات المتعاقبة، منذ الاستقلال، وتحقّق ‏وعد ولي العهد بأنّه سيُنسي بإنجازاته اللبنانيين كل رجال الدولة، بالأخصّ الموارنة منهم، ليصبح ‏هو البطل الوحيد‎.‎

‎ ‎في الواقع، فالبحر يُكذّب الغطاس، والعبرة هي ليست بما يُكتب على الورق أو يعلنه رئيس ‏حكومة في خطوة «تاريخية» تختصر التاريخ بوجوده في غفلة منه في موقع المسؤولية. يعني، ‏وبغض النظر عن الرضية السياسية، فإننا بانتظار النتائج قبل تطويب البطل وإعلانه قديساً‎.‎

لكن، وبالعودة إلى الخطة التي أُعلنت، فمن الواضح أنّ معظمها تكرّر في كل الخطط التي ‏طُرحت، وأغفل الحديث عنها، من خطط مؤتمري باريس إلى سيدر، وكلها تضمنت مسارات ‏إصلاحية تمّ إجهاضها بشكل مأسوي على مدى العقود الثلاثة الماضية، ومن أجهضها هم بالذات ‏من هم في سدّة الحكم اليوم بمختلف أطيافهم، وبتنوع أحجام مسؤولياتهم. لكن من الضروري ‏التعليق على ما يلي. فما أصبح اليوم مثل أسطوانة مكسورة، هو تكرار ببغائي، لم يعلم ولا يعلم ‏حقائق الأمور. لكن اكتشفنا فجأة أنّ المخطط الاقتصادي المالي يستند بأكمله إلى السياسة ذاتها ‏التي بالغ العهد ومؤيدوه بهجائها وتحميلها وزر الفشل الذي وصلت دولتنا إليه. يعني سيدر ‏المشابه لباريس واحد واثنين وثلاثة، و»الخضوع» لإملاءات صندوق النقد الدولي، أي المزيد ‏من الديون على لبنان، وضخ المال في ثقب سيمنع حتماً أي استفادة من المساعدات مهما بلغ ‏حجمها، وإن تمكنت من تخدير الوضع لفترة من الزمن‎.‎

الواقع هو أنّ ردات الفعل على الخطة حتى اليوم من قِبل العديد من المراجع ليست مشجعة، ‏وحتى أنّ البعض قارب وصفها بالخديعة الجديدة. فالشق الداخلي المتعلق بالهندسات بين ‏المصرف المركزي والمصارف بشكل عام، رفضتها جمعية المصارف أولاً، وهي بالأساس ‏تبقي كمية السيولة في البلد على حالها، ولن تتمكن من ضخ مال جديد في الاقتصاد لتحريك ‏عجلته. كما أنّ الإجراءات المتعلقة بالودائع لن تسمح بأن يذهب أحد إلى المبادرة بمشاريع ‏اقتصادية جديدة، او إنعاش القديمة، طالما أنّه لا يعرف إن كان سيتمكن من تحريك رأسماله، ‏وتأمين ما يحتاجه من العملة الصعبة لتسيير أعماله. وبصراحة، فمن المنطقي اليوم أنّه من ‏سيتمكن من إنقاذ أي قرش من ماله من المصارف، وتحت أي حجة، سيلجأ إما إلى تخزينه في ‏البيت، أو تهجيره إلى أي مكان في الخارج‎.‎

لكن ما تميّزت به الخطة اليوم أتى تحت واقع الانهيار المالي، ولا أظن من بوادر ردّات الفعل ‏بأنّ هذه الإجراءات ستؤدي إلى وقف الانهيار. ووقف الانهيار يستند اليوم إلى جملة واحدة هي ‏‏«من سيضخ المال؟». ومن هو قادر اليوم على ضخ المال أصبح نادراً بظل التدهور الاقتصادي ‏العالمي المستمر لأشهر وربما سنوات، ويبقى صندوق النقد الدولي بشروطه الموجعة، السياسية ‏منها والاجتماعية. ومن سيجرؤ على تحمّل تبعاتها الكثيرة على شعبيات زعامات بنت وجوده ‏وأبّدته على حساب توزيع مغانم المال العام؟

والمعضلة الثانية، هي بالوضع السياسي والأمني، الذي وضعنا فيه وجود «حزب الله» في لبنان، ‏وتداعيات مغامراته العسكرية في خدمة مشروع ولاية الفقيه، وما تسبّبه من ضمور في فرص ‏لبنان الاقتصادية بسبب عدم استقرار الوضع الأمني وإمكانية اندلاع الحروب من دون سابق إنذار ‏لحساب إيران. وحتى ولو فرضنا انّ دول الخليج العربي قادرة أو راغبة بالمساعدة، فمن غير ‏المنطقي ان تقوم بذلك بظل العداء والشتائم المستمرة المغطاة رسمياً بالتجاهل. إذا، فإنّ الأمور لا ‏تزال على ما كانت، ولم يبق إلّا العويل على «استرجاع الأموال المنهوبة» كبديل لوهب المال ‏غير الممكن‎.‎

وهنا تبرز معضلة جديدة، فكما التنقيب عن النفط يحتاج إلى جدوى اقتصادية تسمح بالمغامرة ‏وتبديد المال في سبيل احتمال مفيد، فحتى الآن لم نعرف ما هو تعريف المال المنهوب قانونياً، ‏وبالأخصّ في لبنان، وكم من المال هو منهوب، وكم من المنهوب يمكن استعادته، وكم من الوقت ‏تحتاج الأجهزة القضائية «المستقلة» للقيام بواجباتها لتبيان ما هو شرعي وما هو منهوب، وهل ‏ستطال الأمور من هم في السلطة حالياً؟

بانتظار كل ذلك، فلا شك أنّ من يبني اليوم مجده على القضاء على الحريرية، يحتاج لمن هو ‏مثل رفيق الحريري لينقذ عهده ويعيد الأمل للناس‎.‎