منوعات

تراث رمضان:موائد الرحمن "السماط "من الخلفاء إلى البسطاء

تم النشر في 9 أيار 2020 | 00:00


زياد سامي عيتاني*

تعد «موائد الرحمن»، من أكثر العادات الرمضانية المتعارف عليها في بيروت وسائر المدن العربية والإسلامية التي تأخذ بعداً إجتماعياً شديد العمق والتأثير في التكافل الإجتماعي وتوطيد أواصره، وذلك إقتضاءً بالنبي عليه الصلاة والسلام، إذ أن هذه العادة الحميدة ترجع الى العهد النبوي، وذلك عندما قدم على الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) وفد من "الطائف" ليعلنوا إسلامهم، فكان يرسل لهم طعام الإفطار والسحور، وإقتدى به الخلفاء الراشدون حتى أعدوا دار الضيافة لإفطار الصائمين...

**

•موائد الرحمن في بيروت:

كان ينتهز أهل بيروت المفطونين على عمل الخير ومد يد العون لمستحقينه، لا يفوتوا فرصة لتقديم المعونات والمساعدات بأشكال مختلفة وكل حسب قدراته. فكانوا ينتهزون فرصة حلول شهر الخير والعطاء ليسارعوا ويبادروا إلى تقديم ما يقدرهم عليه الرزاق المعطي للعائلات المستورة والمحتاجين والأيتام وعابري السبيل، دون أن تدري يسراهم ما تقدم يمناهم. ومما كانوا يقدمون عليه في الشهر الكريم إقامة موائد الرحمن كنوع من الصدقة أو إستثماراً لإخراج زكاة أموالهم، حيث جرت العادة أن تقام موائد الرحمن في مختلف الأحياء والمناطق البيروتية، وفي مساجدها وجمعياتها الخيرية والإجتماعية.

 وكانت موائد الرحمن تأخذ أشكال مختلفة، فهناك من كان يتكفل بإقامتها في المساجد، وهناك من كان يتكفل بإقامتها في الجمعيات والمؤسسات التي تعنى بالفقراء، ومنهم من كان يستضيف في بيته أيتاماً، إبتغاء للثواب، عملاً بالحديث الشريف: : "من فطر صائماً على طعام وشراب من حلال صلت عليه الملائكة في ساعات شهر رمضان، وصلى عليه جبريل ليلة القدر".

أما في العصر الحديث، فقد دخلت الحداثة على موائد الرحمن، إذ بات المقتدرون مادياً يحجزون مطعماً لإقامة إفطار رمضاني مخصص إما للفقراء والمعوزين أو للأيتام. ومن الأشكال الحديثة لتطوير فكرة موائد الرحمن تأمين وجبات إفطار جاهزة لمنازل العائلات المستورة، إما بواسطة الجمعيات الماخصصة إو بواسطة المطاعم.

**



 •إبن طولون منشئ موائد الرحمن:

وموائد الرحمن ككل العادات والتقاليد الرمضانية لها جذورها وتاريخ لنشأتها وإنتشارها وتطورها، حيث تجمع المصادر التاريخية الى أن الأمير احمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية الذي كان أول من أقام مائدة الرحمن في مصر، إذ حدث ذلك قبل ألف ومائة عام تقريباً، حيث دعا القادة والتجار والأعيان إلى مائدة حافلة في أول أيام رمضان ذلك الزمان. وعندما وصل المدعوون الى الحفل، إذا بهم يجدون إلى جوارهم عدداً كبيراً من فقراء مصر، جاءوا بدعوة من الأمير نفسه.

في ذلك اليوم، أبلغهم إبن طولون، أن المائدة ستستمر طوال أيام شهر رمضان، لاستقبال الفقراء والمساكين وعابري السبيل، وحث ابن طولون الأعيان وكبار التجار، على أن يقتدوا به.

ومن يومها أصبحت موائد الرحمن، معلما مصريا رمضانيا، ثم عربيا وإسلاميا.

**



•المعز أمر بإكثار المآدب:

بالمقابل يشير "المقريزي" إن الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، كان أول من وضع تقليد الإكثار من المآدب الخيرية في عهد الدولة الفاطمية، وهو أول من أقام مائدة في شهر رمضان، يفطر عليها أهل الجامع العتيق «عمرو بن العاص»، وكان يخرج من قصره 1100 قدر من جميع ألوان الطعام، لتوزع على الفقراء.

إلا أن عذه الموائد ربما كانت تفتقد إلى جوهر مبدأ التكافل الإجتماعي، وذلك بسبب المبالغة والمغالات في البذخ. وعذا ما أكده المقريزي أن القصر الشرقي الكبير، كانت فيه قاعة أطلق عليها «قصر الذهب»، وكان الخلفاء يتخذونها لجلوسهم وأعدوها لولائم الإفطار في رمضان، فإذا جاء وقت الغروب، مدت الموائد وحليت بالأزهار، ونسقت عليها أنواع المأكولات والحلوى والقطائف.

كذل فإنه في العصر الفاطمي، كانت تمتد آلاف الموائد المليئة بأطيب الطعام للصائمين غير القادرين، أو عابري السبيل، في صورة رائعة تجسد جوهر ما دعا إليه الدين الحنيف، من تكافل وتراحم، وكان الخليفة العزيز بالله، ومن بعده المستنصر بالله يهتمان بموائد الإفطار، التي تقام في قصر الذهب للأمراء ورجال الدولة، وكذا التي تقام في المساجد الكبرى للفقراء والمساكين.

وكانت تسمى موائد الرحمن بالأسمطة. (السماط) في اللغة: هو الشيء المصطف يبسط ليوضع عليه الطعام. ففي القصر الفاطمي مثلاً كان يُقام سماط يطلق عليه (سماط رمضان) وذلك في قاعة الذهب حيث يجتمع مجلس الملك، ويمدّ من اليوم الرابع في رمضان إلى آخر يوم منه، وقد يُقام في الحديقة بعد أن يُقام سرادق (خيمة) كبيرة في المكان.. والى هذا السماط يدعى قاضي القضاة في ليلة الجمعة احتراماً لمركزه الديني، كما يُدعى إليه الأمراء وأصهار الخليفة وكبار رجال الدولة كل بدوره، وفي حال تغيب الخليفة أو تأخر يحلّ محله ابنه أو أخوه أو صاحب الباب. ‏ ‏

وكان الخلفاء يهتمون بهذا السماط اهتماماً كبيراً بشكل يومي حيث لا يفوته شيء من أصناف الأطعمة الفاخرة وينفقون عليه كثيراً. وعند حضور المدعوين تقوم جماعة من الخدم بإنارة المصابيح المعلقة، بينما تقف جماعة من الحاشية والخدم على استعداد لخدمة المدعوين ويحملون الأباريق الفضية والأقداح الزجاجية حول الأسمطة يسكبون الماء في كيزان الخزف لمن يريد. ‏ ‏

هذا، وبالإضافة إلى الأسمطة التي كانت تقام للخليفة وحاشيته، كان يمد سماط في دار الوزير يدعى إليه كثير من رجالات الدولة ويعطى ما يزيد عن حاجتهم للعامة الذين كانوا يحملون منه الكثير.

*



•إزدهار موائد الرحمن في العهد المملوكي:

واشتهرت في هذا العصر، الأوقاف الخيرية، التي كان يخصصها الأمراء والسلاطين لإطعام الفقراء والمساكين في شهر رمضان عن طريق موائد الرحمن، وتوزيع الطعام المجهز عليهم، والذي كان يشتمل على اللحم والأرز والعسل وحب الرمان، فقد نصت وثيقة وقف السلطان حسن بن قلاوون على الآتي: «يصرف في كل يوم من أيام شهر رمضان، عشرة قناطير من لحم الضأن، وأربعون قنطارًا من خبز القرصة، وحب الرمان وأرز وعسل وحبوب وتوابل، وأجرة من يتولى طبخ ذلك وتفرقته، وثمن غير ذلك مما يحتاج إليه من الآلات التي يطبخ فيها، فيطبخ ذلك في كل يوم من أيام الشهر الكريم».

*

•موائد سياسية في عهد فاروق:

فى النصف الأول من القرن العشرين اشتهر الملك فاروق بمآدب الإفطار التى كان يأمر بإقامتها فى "الملجأ العباسي"، و"مدرسة الرمل الثانوية" بالإسكندرية، وفى "مطعم الشعب" بالقاهرة، حيث أعطى الملك فاروق مساحة كبيرة من اهتمامه للولائم والموائد الرمضانية التى تراوح الغرض منها ما بين الدعاية السياسية وإطعام المساكين، حيث

أن موائد الرحمن تحولت تدريجيًأ عهد الملك فاروق إلى بروتوكول سياسى لإطعام المساكين الذين كانوا يهتفون بالدعاء لولي النعم، فكانت تسمى بالمائدة الملكية.

**



 •بنك ناصر يشرف على موائد الرحمن:

أما في العصر الحديث، وتحديدا في عام 1967 فتولى بنك ناصر الاجتماعي في مصر، الإشراف على موائد الرحمن بشكلها الحالي، في المساجد المختلفة من أموال الزكاة، وكان أشهر تلك الموائد، المائدة المقامة بجوار الجامع الأزهر، والتي يفطر عليها أكثر من 4 آلاف صائم يوميا، وبعد ذلك بحوالي عشرة أعوام، امتدت مشاركات الوزراء ورجال الأعمال ورؤساء الجامعات، وكان من بينها مائدة البابا شنودة بطريرك الكنيسة المصرية، وهي دليل حي على المشاركة الوجدانية بين المسيحيين والمسلمين.

**


أما اليوم، فتقام الموائد في معظم دول العالم الإسلامي، بعضها من قبل مؤسسات خيرية، وبعضها ممن أنعم الله عليهم بالخير الوفير من رجال الأعمال وأصحاب المال... وقد باتت علامة من علامات الرحمة والتكافل الإسلامي في هذا الشهر الكريم، التي حرمنا منها هذا العام بسبب الإجراءات الوقائية المتبعة للحد من إنتشار جانحة وباء "كورونا".

**

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي