كتبت صحيفة " النهار " تقول : يروي غدي، وهو مواطن لبناني، منذ أكثر من عشر سنين، كيف قصد عيادة طبيبه المُعالج في أحد أكبر مستشفيات بيروت، ليجده يشتم ويلعن عبر الهاتف موظّف مكتب الدخول الذي اتّصل بالمرضى يعلمهم بتأجيل مواعيد عمليّاتهم الجراحيّة في اليوم التالي من دون استئذان الطبيب. لكن الجواب جاءه عبر الهاتف بأنّ المُعدّات والمواد الطبيّة الضروريّة لإجراء تلك الجراحات غير متوافرة، وأن القليل المُتوافر منها يحفظ للحالات الطارئة فقط، وأن شركة استيراد المُعدّات والمُستلزمات الطبيّة، تأخّرت في تأمين المطلوب، بسبب بطء المعاملات الإداريّة والماليّة، بعدما كفلت الحكومة عبر مصرف لبنان سداد 85% من الأثمان بالدولار المدعوم، لكن التباطؤ في بت الطلبات، يجعل استيراد المواد الطبيّة أمراً مُعقّداً، ويخضع للتأخير المُستمر.
ويتحدّث الطبيب عن تعقيدات إضافيّة باتت تؤثّر على العمل الطبي الاستشفائي، وستنعكس سلباً على مستوى الخدمات الصحيّة في وقت قريب جدّاً. فالتعرفة التي تدفعها المؤسّسات والصناديق الضامنة باتت متدنية قياساً بارتفاع سعر الدولار ازاء الليرة. والبدلات المُخصّصة للأطباء والتي كانت تُساوي مثلاً 500 دولار أميركي، قاربت المئة دولار فقط. فيما إدارات المستشفيات تُمارس تقشّفاً كبيراً في غرف العمليات، وفي كل الأقسام لضمان الاستمرار وعدم إهدار الموارد خوفاً من العجز عن استيراد بدائل من الكميات المستهلكة.
وقبل أن يدعو الطبيب مريضه إلى مُلازمة منزله أياماً، ريثما تتصل به إدارة المستشفى، بعد حلّ المشكلات العالقة، يتذكّر العلاقة المُلتبسة حاليّاً مع شركات التأمين، والتي تحدّد بدلاتها بالدولار الأميركي، لكنّها تدفعها بالليرة اللبنانيّة، وفق السعر الرسمي أي 1507 ليرات.
يخرج المريض عائداً إلى منزله، ووجع الرأس المستجدّ، والخوف على المصير، يُرافقان ألمه الجسدي الذي يتطلّب علاجاً جراحيّاً لم تعد تنفع معه الأدوية.
وفي حالة ثانية، يروي مريض حضر لإجراء جراحة، وهو مضمون لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، أنّه أبلغ لدى دخوله المستشفى، أنّ الفارق الذي عليه أن يُسدِّه ونسبته عشرة في المئة من قيمة الفاتورة العلاجيّة، يتجاوز الخمسة ملايين ليرة لأنّ ثمّة "قضيب حديد" لا يدخل في حسابات الضمان الاجتماعي وثمنه يُقارب الألف دولار. وعليه أن يُسدِّد الثمن بالدولار أو وفق السعر المُتداول في الأسواق للدولار أي 4500 ليرة. نظر المريض إلى زوجته، وقرّرا معاً مغادرة المستشفى، وإبلاغ الطبيب رغبتهما في إرجاء الجراحة إلى حين توافر مبلغ الخمسة ملايين.
ويقول إنّه لدى تقديمه أوراق الدخول إلى المستشفى، قيل له إنّ عليه سداد مبلغ 1300 دولار، لكنّه احتسب الدولار على الـ 1500 ليرة الرسميّة المُعتمدة في المؤسّسات، وإذا به يفاجأ باعتماد سعر السوق ما جعل الفارق يقرب من ثلاثة ملايين ليرة لا يملكها حاليّاً، ولا يريد أن يُحمّل أبناءه الأعباء لأنّ ابنته تُرِّكت العمل وهي تُلازم المنزل مع عائلتها، وراتب نجله بالكاد يكفيه إلى آخر الشهر. والقصتان حصلتا في اليومين الاخيرين، ما يعني ان المشكلة باتت تواجه العشرات، وقد تتفاقم أكثر.
وأمس أصدرت الجمعية اللبنانية لأطباء القلب بياناً بعنوان "عذراً مرضى القلب في لبنان، لم يبقَ لنا لمساعدتكم إلّا الصراخ"، وتضمن الآتي: "أمام الشكوى المتكررة من مرضى القلب كان لا بُدّ لجمعية أطباء القلب في لبنان من رفع الصوت عالياً إستنكاراً لإنقطاع أبسط الأدوية ومنها مدر البول! وأمام هول الإستهتار نسأل: أي أمل يترك المسؤولون في هذا البلد لمواطن حين يعجزون عن أقل الواجب؟ ألا يعلم المسؤولون أن إنقطاع هذه الأدوية يؤدّي إلى ازدياد الدخول إلى المستشفيات بسبب الاختناق والذي يؤدي إلى الوفاة؟ هل على المواطن أن يدفع ثمن الإهمال، والفساد، وغياب الخطط من حياته وصحّته؟
أيّها السادة، الجميع يعلم أن هذه الأدوية تنقطع لأنّها رخيصة وغير مُربحة للمستوردين. وبالمقابل بعد تواصل جمعية أطباء القلب في لبنان مع نقابة مُصنّعي الأدوية في لبنان تأكّد لدى الجمعية القدرة على التصنيع محليّاً - فما العائق؟ إنّه غياب التخطيط اللازم. ذلك أنّ تصنيع هذه الأدوية بحاجة إلى إستثمار، ولحماية هذا الإستثمار لا بُدّ من إلتزام واضح من الدولة بهذه الحماية".
هذا الواقع المؤلم يطرح أسئلة مُقلقة عن مآل الوضع الصحّي في لبنان، وصحّة اللبنانيّين التي دخلت، أو تكاد، مرحلة الخطر الحقيقي في ظلّ عجز، أو تلكّؤ، المستشفيات عن استقبال المرضى ومعالجتهم.
ويعود التشكيك في حقيقة الوضع إلى البيان الذي أصدرته نقابة أصحاب المستشفيات في 12 حزيران وحذّرت فيه من أنّها قد تلجأ إلى "خيار واحد وهو استقبال الحالات الحرجة فقط". وجاء في البيان أنه "نظراً إلى الأوضاع المالية الراهنة فقد لجأ مستوردو المستلزمات الطبية الى إصدار فواتيرهم بالدولار الأميركي والإصرار على قبض جزء منها لا يقل عن 15 في المئة وقد يصل الى 25 في المئة أحياناً على أساس سعر صرف السوق الموازي والذي تجاوز الـ5000 ليرة، عدا عن أسعار مستلزمات الوقاية (PPEs) التي لا تباع إلا بسعر صرف السوق كونها غير مشمولة بدعم مصرف لبنان. وهذا الأمر يتسبّب بكوارث مالية للمستشفيات إن لجهة عدم توفر الدولار الأميركي لديها أو لجهة تأمين الـ 15 في المئة أو الـ 25 في المئة بسعر السوق الموازي". وأضاف البيان أن "هذا الواقع المفروض على المستشفيات يجعلها مضطرة الى عدم التمكن من اجراء معظم العمليات الجراحية وعدم استقبال العديد من الحالات الأخرى التي تستوجب مستلزمات طبية".
وأوّل من أمس أعلن وزير الصحّة حمد حسن أنّ "الوزارة في صدد المبادرة إلى إجراء مناقصة لشراء المُستلزمات الطبيّة على نفقتها، ما سينعكس تقليصاً لفاتورة المريض ولميزانيّة وزارة الصحّة العامّة". لكن مصادر مُتابعة أوضحت لـ"النهار" أنّ الآليّة لم توضع بعد، وبالتالي فإنّها تستلزم وقتاً إذا كات ستجري وفق الأصول المُعتمدة.
المصدر: صحيفة النهار