-------------- * منير الحافي
في يوم تموزيّ كئيب، أكتبُ عن الكهرباء في لبنان، وهي من أكثر القطاعات التي صرفت عليها الدولة من أموال اللبنانيين الملتزمين بدفع فواتيرهم. وهو القطاع الذي يعاني، للأسف، من سوء الإدارة وسوء التصرف، ومن الهدر ومن الفساد، وإلا لما كنا وصلنا إلى أن تنقطع الطاقة عن لبنان بأكمله في العام ٢٠٢٠! حتى بتنا أسوأ من جمهوريات الموز في هذا المجال وفي كل المجالات!!
عدت بالذاكرة إلى أيام الخير أي إلى رفيق الحريري. الرجل الذي تسلم البلد وكان "خربة" من الذين سبقوه، ولأول مرة سلم "دولة" للذين أتوا من بعده.
في العام ١٩٩٣، عين رفيق الحريري، مهندساً اسمه مهيب عيتاني مديراً عاماً لمؤسسة كهرباء لبنان. وكان الرئيس الشهيد يؤمن بأن الإنجاز في هذا القطاع هو إنجاز وطني مهم ناهيك عن أنه ضرورة ملحة جداً للشعب. ذلك أنك عندما تعيد النور للناس، فإنك تعطيهم الأمل وتعطيهم المجال للعمل. كما أنك تعطي ثقة للعرب والعالم بأن لبنان يعود إلى "طبيعته" الحضارية. بلد مشع بأهله و.. كهربائه.. فيعودون جميعاً إلى لبنان.
كان قطاع الكهرباء مثل باقي القطاعات العامة في لبنان قبل العام ١٩٩٢، قطاعاً مدمراً، إثر انتهاء الحرب الأليمة التي عصفت بالبلد، بعد أن دُمِّرت البنية التحتية للشبكات والمعامل. كما توقفت الشبكة عن النمو لتلبية ازدياد الطلب على الطاقة الناتج عن عامل النمو السكاني المستمر وعامل النمو الاقتصادي بعد توقف الحرب منذ ١٩٩٠.
أدى هذا الواقع المرير إلى تراكم الديون على المؤسسة، وإلى تدني ساعات التغذية بالتيار بشكل دراماتيكي.
في أوائل العام ٩٥ صرح الرئيس رفيق الحريري بأنه "ستكون هناك كهرباء في لبنان في أوائل العام ٩٦ : ٢٤ على ٢٤ ساعة". زاره مهيب عيتاني وقال له: "لماذا دولة الرئيس هذا التصريح. نحن غير قادرين على ذلك". فرد الحريري:"هذه مشكلتكم. إذهب وجِد لي الحل".
قام عيتاني وفريق عمله بالدراسات المطلوبة وقد تم اختيار مكان انشاء المعملين في صور وبعلبك، وذلك لأسباب تتعلق بنقل الكهرباء والنقص الحاد في خطوط النقل في المناطق. تم انشاء المعملين الجديدين في مهلة قصيرة لا تتعدى السبعة أشهر بالتعاون مع وزارة الموارد المائية والكهربائية، وكانت طاقة كل منهما ٧٠ ميغاوات وقد انضما إلى الشبكة العامة في أواخر العام ٩٥. قام الخبراء بإنجاز ما طلبه الحريري وعملوا جهوداً جبارة وأعطوا كهرباء لكل لبنان في بداية ٩٦.
في السنة نفسها، قام العدو الإسرائيلي بالاعتداء على لبنان. فبدا وكأن كل ما قام به الحريري من "معجزة" إعادة الكهرباء قد ذهب هباءً بعد قصف قوات الاحتلال لمحطتي الجمهور وبصاليم وشبكات ومحطات التوزيع الكهربائية في الجنوب والبقاع الغربي. وقد أدى الاعتداء الغاشم إلى تدمير كلي لمحطة بصاليم و٤٠٪ من محطة الجمهور. بالرغم من ذلك استطاع الفريق التقني الذي كان يقوده عيتاني، أن يعيد التشغيل خلال ٤٨ ساعة بعد توقف القصف الإسرائيلي، وأعاد التغذية بالتيار إلى المناطق التي تتغذى من محطة الجمهور.
المشكلة التي واجهت عيتاني كانت محطة بصاليم التي تضررت كثيراً بفعل احتراق المحولات والشبكات. يومها اتصل الحريري بالرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي أرسل عبر البحر معدات فرنسية خاصة للمعمل، وكانت بحراسة ١١ قارباً عسكرياً وذلك لمنع أي سفينة حربية إسرائيلية من محاولة وقف الشحنة نحو لبنان. وعادت التغذية إلى محطة بصاليم بنسبة ٩٠٪ بعد ثلاثة أسابيع من توقف العدوان، إلى أن تمكنت المؤسسة من شراء باقي المعدات أوائل العام ٩٧ فعادت التغذية للمناطق التي تتغذى من هذه المحطة إلى ٢٤ ساعة.
إضافة إلى ذلك، تمكنت المديرية العامة للكهرباء من إزالة الأضرار وإعادة التيار إلى ١٣٠ قرية في الجنوب والبقاع الغربي بعد ٤ أيام من توقف الاعتداء عام ٩٦. يذكر أن المؤسسة قد كانت قد اتمت إصلاح الأضرار وإعادة التيار إلى ١٠٩ قرى في الجنوب والبقاع الغربي بعد ٦ أيام من الاعتداء الإسرائيلي عام ٩٣.
على الإجمال تمكنت المؤسسة من إنجاز التالي:
- رفع القدرة الإنتاجية للمعامل الحرارية والمائية من ٣٥٠ ميغاوات في العام ٩٣ إلى ١٤٠٠ في العام ١٩٩٧ بالإضافة إلى ٩٠٠ ميغاوات جديدة في معملي دير عمار والزهراني.
- رفع ساعات التغذية من حوالى أربع ساعات في ٩٣ إلى أربع وعشرين ساعة منذ بداية العام ٩٦.
- رفع الجباية من حوالى ٧٠ مليار ليرة في العام ٩٣ إلى حوالى ٥٥٠ مليار في العام ٩٧.
- تركيب وتأهيل أكثر من ٤٥٠ ألف عداد تأميناً لطلبات المشتركين.
- تركيب وتأهيل الآلاف من محطات التوزيع في كافة المناطق اللبنانية.
- تركيب واستحداث عشرات آلاف الكيلومترات من الشبكات والاعمدة الكهربائية.
- تأهيل الشبكات الكهربائية على أنواعها والمعامل الإنتاجية وإزالة أضرار الحرب.
- إيصال التيار إلى جميع القرى اللبنانية في كافة الأراضي اللبنانية لأول مرة في تاريخ الدولة اللبنانية.
- إنشاء ٤ معامل حرارية جديدة بقدرة ١٠٥٠ ميغاوات.
- إنشاء أكثر من عشر محطات تحويل رئيسية.
- مكننة المؤسسة وإنشاء مركز نظم المعلوماتية الجغرافية GIS.
تسلم رفيق الحريري البلد وفيه ٣٠٠ ميغاوات كهرباء، وسلمه في العام ١٩٩٨ لحكومة لحود-الحص وقدرته ٢٤٠٠ ميغاوات مع تأهيل الشبكات، والتوزيع تم في كل الأراضي اللبنانية. كان البلد يحتاج يومها لحوالى ٢٠٠٠ ميغاوات.
للمفارقة الشديدة، أنه في بلد مثل لبنان، يكافأ المرتكب ويُظلم المُنجز. عندما تسلم أميل لحود الرئاسة وسليم الحص رئاسة الحكومة، تم رفع دعاوى بالجملة على مهيب عيتاني (ومعه عدد من الذين اشتغلوا مع رفيق الحريري). وتم توقيفه في رومية لمدة ٧ أشهر ويومين بتهمة التدخل بسرقة جنازير كانت تستعمل لانتشال السفن الغارقة في مرفأ لبنان إبان الحرب. وقد تمت تبرئة مهيب عيتاني لاحقاً رغم الحملات الحاقدة (كان عيتاني قد انتقل من الكهرباء إلى مرفأ لبنان بقرار من مجلس الوزراء). أما رفيق الحريري نفسه، فتم اغتياله في ١٤ شباط ٢٠٠٥ المشؤوم، ليدخل البلد بعده في عتمة.. لم نخرج منها حتى الآن.
*عضو المكتب السياسي في "تيار المستقبل" - إعلامي