منوعات

حين كانت بيروت تعيش "فرحة العيد"

تم النشر في 31 تموز 2020 | 00:00




زياد سامي عيتاني*

بعد الإنتهاء من الواجبات العائلية من تزاور ومعايدات ولمة العائلة أول يوم من العيد عند كبيرها، ينصرف الجميع إلى حياة اللهو التي كانت تخصص لها أماكن ومناطق محددة، تعج بالناس المحتفلين بالعيد وسط أجواء عارمة من البهجة والسرور.

وأبرز هذه الأماكن التي كانت تخصص لإقامة إحتفالات العيد الشعبية وفعالياتها: "حرش" العيد، وحديقة الصنائع، وكورنيش البحر.

**



•حرش العيد:

الإحتفالات الشعبية بالعيد الأبرز كانت تقام جرج بيروت-قصقص، ويطلق عليه "حرش العيد"، حيث تتحول المساحة الفسيحة المكسوة بأشجار الصنوبر، إلى مدينة قائمة بذاتها داخل المدينة، وتختصر نمطها الإجتماعي، تعج بالناس الوافدين من كل أحياء ومناطق بيروت للمشاركة في هذا "الكرنفال" الشعبي، حتى تصبح كمدينة للملاهي في عصرنا الحديث، مع الإختلاف بأنواع الألعاب التي كانت مفعمة بالمشاعر الإنسانية، بعيداً عن الألعاب الإلكترونية الحديثة.

فكان "حرش العيد" منذ الصباح الباكر بضج بالوافدين الذين يصلونه "بالطنابر" و"الترام" للتمتع بأجوائه، التي يختلط فيها الغناء والأهازيج ومناداة باعة الكبيس والتفاح "المعلل" و"الفريسكو" و"السمسمية"، على وقع رقصات الدبكة، ولعبة السيف والترس، وألاعيب الساحر، وأكشاك مسرحيات "التيرسو"، و"القرداتي" الذي يرقص السعدان وهو يدق على الرق مخاطباً قرده: "قوم يا قليل المروة بوس إيد ستك العجوز، وفرجينا كيف بتعجن الصبية، وكيف بتعجن العجوز، وفرجينا كيف بيلبس معلمك الطربوش"...



•القلابات والأراجيح:

لكن أكثر ما كان يستهوي الأطفال والأولاد هو ركوب "القلابات" (الشقليبات) و"المراجيح" و"الأرجيح"

(الجنازيق) فرحين مسرورين وهم يرددون أهازيج: "يا أولاد محارم..يو يو، و"دبوس حديد.. يو يو" و"يا أولاد أبو شرشوبة.. عائشة المخطوبة"...

•صندوق الفرجة:

ولا بد للأولاد المحتفلين بالعيد في "حرشه" من مشاهدة "صندوق الفرجة" (تلفزيون ذلك الزمان)، الذي كان صاحبه يجذب الأولاد منشداً أهزوجته المعرفة:

شوف تفرج يا سلام،

شوف أحوالك بالتمام،

شوف قدامك عجايب،

شوف قدامك غرايب،

شو الأميرة بنت السلطان،

شو عنتر أبو الفوارس...

وصندوق الفرجة هو صندوق خشبي مستطيل مطلي بألوان "فاقعة"، له ثلاثة ثقوب مستديرة، مغطاة بقطع من الزجاج، لتمكين الأولاد من مشاهدة المناظر في داخله، التي يحركها صاحب الصندوب بواسطة دولاب مغلف بالصور المتتالية، التي كانت تبهرهم وتذهلهم بما يشاهدونه، وكأنها كانت عجيبة في حينه!!!

على هذا المنوال كان الأولاد يقضون أوقاتهم في "حرش" العيد، حتى صح فيهم المثل: "راح عالحرش، ورجع بلا ولا قرش"...

**



•حديقة الصنائع:

"جنينة الصنايع"، المسيجة بشجر الزعرور بحبيباتها الحمراء الصغيرة، وأشجار "البوانسيانا"، كانت محطة أساسية في العيد، فلا بد أن يخصص لها يوماً، ينتظره الأولاد بلهفة شديدة، وذلك لركوب الدراجة الهوائية، دون أن يعلموا في حينه أن الحديقة هي معلم بيروتي ذات طراز عثماني، إكتسبت تسميتها لقربها مما كان يعرف سابقاً بـ"مبنى الفنون الجميلة والصنائع"، الذي أسسه العثمانيون.

بعد تجميع "العيديات"، كانت الوجهة إلى محلة الصنائع، حيث أن المحطة التي لا بد منها قبل الدخول إلى "الجنينة" هي محل "العيتاني" لتأجير الدراجات، مقابل مدخلها، وكأن إستئجار الدراجة بمثابة بطاقة الدخول إلى الجنينة.

ما أن يحصل الأولاد على دراجتهم، حتى يدخلوا إلى الحديقة بصحبة الأهل الذين يجلسون على مقعد خشبي لمراقبتهم، والتدخل السريع في حال تعرضهم لأي سوء، أو التشاجر مع غيرهم من الأولاد على أفضلية المرور، مستمتعين بطيورها وأشجارها المعمّرة، لكسر الوقت وهم ينتظرون إنتهاء الفترة الممنوحة لهم لإستخدام "البيسيكلات" قبل إعادة تسليمها.

وإذا ما شعر الأولاد بالجوع من جراء التعب والشقاوة، يشتري لهم أهلهم كعكة بالزعتر أو قليطة أو عرنوس ذرة، مع هرم "بونجيس" أو مشروباً غازياً، وكيساً صغيراً من "الملبس على قضامة" أو "النعومة" للتحلية، من الباعة أصحاب العربات أو البسطات المنتشرين في الخارج.

**



•كورنيش البحر:

الكورنيش البحري المرتبط بذاكرة البيروتيين وتراث مدينتهم، كان يتحول أيام العيد إلى مدينة بحرية قائمة بحد ذاتها، كأنه عالم خاص تخصص مساحته إلى فسحة العيد بكل طقوسه الشعبية الملونة بكل ألوان الفرح واللهو التي تحاكي الأطفال والأولاد، الذين كانوا يجدون فيه ضالتهم ليقضوا أجمل أوقات العيد...

•دواليب الهواء وطائرات الورق:

أول ما كان يشد الأطفال بائع دواليب الهواء الملونة المثلثة الأضلع والمصنوعة من الورق اللميع والمعلقة بعود من الخشب الرفيع، حيث تدور مع قليل من الرياح الهادئة بشكل تلقائي وكأن ساحرٌ يحركها.

كذلك ما كان يسرق الإنتباه بدهشة كبيرة، هي "طيارات" الورق بأشكالها وألوانها المختلفة،التي يطيرها الفتيان في السماء بواسطة خيطان، ويتبارون فيما بينهم من بمقدوره أن يجعل "طيارته" تحلق أكثر من الآخر، وغالباً ما كانت الخيطان "تتشركل"، فتقع المشاجرات فيما بينهم، مما يقتضي تدخل الأهل لإصلاح ذات البين.



•غزل البنات والفستق و"السحبة":

وكان الأطفال ينتظرون بائع غزل البنات بدراجته الهوائية، واضعاً أمامه العدة الخاصة بصناعة الغزلة، مرتدياً زياً مزركشاً يستهوي الصغار، منادياً: "شعر البنات.. سكر نبات"، فيتحلقون حوله، لمراقبته مندهشين، كيف يحول السكر إلى إلى شعيرات وخيوط زهرية بمذاقها الحلو المميز، منتظرين دورهم للحصول على حصتهم، إما داخل كيس من النايلون، أو على عود خشبي، فنمضون فرحين متلذذين بهذه الحلوى اللطيفة...

ثمة بائع متجول يحمل بيده سطلاً حديدياً وكيساً بداخله "قراطيس من البسكويت، وينادي: "كاربيج.. كارابيج"، كان ممنوعاً على أغلب الأولاد من قبل الأهل الشراء منه، منعاً لتعرضنا للتسمم(!)

كان بداخل السطل "الناطف" وكان على الزبون الصغير أن يدفع للبائع خمسة قروش فيعطيه "الزهر" (النرد)

ليرميه أرضاً، والرقم الذي يستقر عليه "الزهر" يكون له بعدده "قراطيس" معبأة بالناطف، كذلك كان بحوذته أيضاً علبة كرتونية "السحبة" مقسمة إلى مربعات صغيرة مخرمة، مقابل "الفرنك" يمكن للطفل أن يفتح إحدى مربعات الحظ، لكي يحصل على ما يخبأ له في داخل المربع من هدية، بالأغلب تكون خاتم من البلاستك، كذلك "السحبة" لم يكن مرغوباً أن لعبها، خشية أن تكون فخاً للأولاد في المستقبل للعب "القمار" (الميسر)، حسب معتقدات الأهل.

أما عندما تفوح رائحة الفحم المشتعل، هذا مؤشر لإقتراب بائع الفستق السوداني حاملاً قاعدة خشبية، يضع عليها وعاءاً حديدياً دائرياً من طبقتين ولها داخون صغير، الطبقة السفلى لوضع الفحم، والعليا لعرض الفستق الساخن ذات الطعم اللذيذ والشهي، ويشك حولها "قراطيس" مصنوعة من ورق مجلات قديمة يعبئها للزابئن.

وغالباً ما كان الأطفال ينادونه "عم عبدو"، ربما لأن بشرته سمراء، وكان لطيفاً ومحباً ويساير الأطفال، الذين ينتظرون ضحكته لمشاهدة أسنانه الشديدة البياض، ويغنوا له له أهزوجة: "عبدو عبيد أسنانو بيض..." التي يتقبلها بكل رحابة صدر وإبتسامة، مع حبتين فستق زيادة في "القرطاس"...

**



هكذا كانوا يعيشون العيد وأجوائه، مما يدفعنا اليوم للتساؤل: ما الذي بقي من فرحة العيد في هذا العصر الذي تباعدت فيه القلوب؟

فقد باتت البسمة مزيفة والفرحة مصطنعة والمجاملة هي سيدة الموقف، إجتماعاتنا صارت كأنها شيئاً مفروضاً ينبع من حس أداء الواجب فقط، فصارت تجتمع الأجسام ولكن القلوب متفرقة ومتباعدة...

**

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.