أخبار لبنان

من يذبح الليمون!؟

تم النشر في 8 شباط 2021 | 00:00

رشيد درباس


إن طرابلس لم تكن لتظن أن ‏الفوضى المستدامة، هي سياسة ‏الحكم، لولا أن العجز كان موازياً ‏لسوء النية.‏

عمر مسقاوي


صارت الفيحاء صندوق بريدٍ لرصاص القتلة، منذ أن جندلوا ليمونها، وخلعوا عن ‏كتفيها انسدال الخضرة وعن رأسِها وشاحَ الزهر، وخنقوا في صدرِها الأكمام حتى حَشْرجَ ‏العِطْر وَخَرَّت بساتينُها يابسةً تحت الفؤوس.‏

لا أكتب تاريخ المدينة، على الرغم من أنّي ربيبُ مراحلها؛ فقد هلكت مني عقود في ‏طريق جلجلة متناسلة الأزقة المعتمة، وبلغتُ أرذل العمر لأرى شعب طرابلس نهبًا ‏‏"لنضال" السَّفلة، وأصحاب شركات الإجرام السياسية، الذين بقفازات بيضاء كاذبة، أقفلوا ‏قلوبهم عن الخير، وطاحت يمناهم بشمال البَوْصَلَةِ، وأضلّوا الناس طريق مصالحهم ‏فألهَوْهم بالقنابل والمولوتوف في هامشٍ مُخَلَّقٍ، يكاد يحتلُّ المتن، ويفتك بالأصل، مستغلين ‏غياب الدروع السياسية والفكرية التاريخية باستشهاد المرجعية الكرامية وإبعاد عبد المجيد ‏الرافعي، وتحول الأحزاب العقائدية العريقة إلى مخلفات حرب.‏

زرع الجدود على خصر المدينة حزاماً أخضر يصدُّ عنها رطوبة البحر وسفَّ ‏الرياح والرمال، فمزَّقَه أصحاب الجهالة الجهلاء الذين افترست جرافاتُهم البساتين، طمعًا ‏بأرصدة في المصارف على حساب الليمونة العريقة الكريمة، التي واظبت على تقطير ‏خيرها بلا كلل منذ أن كانت طرابلس. أسقطوا نصيفها وما اتقوا عُرْيَها بكفٍّ أو سعفة ‏نخيل، وأغَرْوا بها عين الدخيل ولؤم البخيل؛ فكيف تكون للأقدمين بصيرة نفاذة، فيما ‏تتنصل عيون أبناء العصر من سرحة الأخضر المفضي إلى الأزرق، وتغضي عن ‏اغتصابها بأبنية عدوة التاريخ والجغرافيا.‏

كانت مدرسة الفرير بأسوارها الملونة بالزهر الأحمر، تقبع في عمق طرابلس ‏التاريخية، ومدرسة الأميركان في قُبَّتِها، ومدرسة الطليان في رَوْنَقها، والليسية الفرنسية في ‏شارعها الرئيس، والقلبين الأقدسين في مينائها، وكلها تعج بالراهبات والرهبان والقسيسين، ‏ومنهم الأجانب الذين ألِفَتْ قلوبهم أذان الصلوات، وتساكنوا مع النسيج وغزلوا من معارفهم ‏خيوطًا مضمخة برائحة المكان، واستقبلوا في صالاتهم كبار الشعراء والمفكرين، وربَّوا ‏الأجيال المقيمة والوافدة، وألَّفوا بين التلامذة، واتخذوا من اليخضور، أي "الكلوروفيل"، ‏حمامًا زاجلًا موصلًا للثقافات عبر شميم التراث وعبير الانفتاح، لكن الإرساليات هُجِّرَتْ ‏لحساب "العدو العقاري" وخرجت إلى الجوار ففقد الطلاب لذة الذهاب إلى المدارس سَيْراً ‏أو على دراجات هوائية، وحرمت الأسواق من الأنس الأجنبي، وخنق الأزدحام أصوات ‏الأجراس المدرسية، وأسلم الطبشور غباره اللذيذ إلى تلوّثِ المحرّكات، وأقفل نادي نفط ‏العراق بمناخه الثقافي الراقي وكذلك قصر المنتزه وتلاشت همزة الوصل بين الأقضية ‏فتوارت إلى ضباب الذاكرة مدينة (كوسموبوليت) ضاهت الاسكندرية بتنوعها، فيما كانت ‏من قبل مقراً لقناصل الدول الكبرى.‏

كان النَّحاسون يطرقون على الأواني ليستدرجوا الغريب والبعيد إلى سوقهم ، ‏ويؤلفِّون مع خرير "أبي علي" أنشودة طرابلس، فُطُوِيَ الخرير واستبيح "البازركان" ‏وأقْعَتِ القلعة على تَلَّتِها شاهدة حزينةً على مشهد حزين.‏

أما مصانع طرابلس الكثيرة والمتنوعة فقد هوت تحت مطارق "الحركة المطلبية"، ‏وتَخَفُّفِ الأنجالِ من ثقل صناعة الآباء، وإيثارهم التجارة على الريادة، فأرسلوا العمال ‏المهرة إلى بيات مديد، فازدادت المدينة فقرًا، والنفوس قهرًا، وغُصَّت شمس الشروق التي ‏كانت ترسل أشعتها مع آلاف الدراجات الهوائية، يمتطيها النَّساجون والنجارون وصاهرو ‏الحديد، وعمال المشروبات والمرطبات ذهابًا إلى أعمالهم، وخلت الدروب من حيوية ‏المنتجين، وامتلأت بالمتسكعين يزحمون الغروب بتثاؤب البطالة.‏

ثم حلت سنة 1975 بأحداثٍ مريرة معظمُها من صنع ذوي القربى الذين عاملوا ‏طرابلس بالاستهانة واستباحوا كرامتها واقتصادها. فإنَّ "الإخوان" حين اختلفوا على ‏الوسيلة الفضلى لتحرير الجولان متراً متراُ والقدس الشريف شبرًا شبرًا، كان لهم شرف ‏تدمير مصفاة طرابلس، خزانًا خزانًا، ومنشأة خلف منشأة، وقصفوا المصبَّ لكي يهرب ‏المنبع، ويشيح بسُفُنِهِ إلى حيث تُكرَم وفادة مراسيها، واستحدثوا فيما بعد الفتنة السنية ‏العلوية، وأجَّجوا الفتنة الإسلامية المسيحية، واتخذوا من المنازل الفقيرة حقول رماية ‏لقذائفهم، وزعزعوا المؤسسات، وجففوا الموارد، وامتصوا رحيقها، وأرادوها الفيحاء ‏‏"إمارة" نصبوا عليها مأمورين غرباء عن نسيجها و "قاعدة" ينسب إليها الإرهاب. ‏

في إحدى روايات التاريخ المختلف عليها، أن المدن الثلاث، صيدون وصور ‏وأرواد، كانت تتبادل التجارة والسياسة في منطقة وسطى، أنشأت كل مدينة فيها سوقًا ‏ومقرًّا فكانت طرابلس؛ أما في التاريخ القريب الذي لا خلاف عليه فإن "نزار الدمشقي" ‏أقام جسرًا بين فيحائه وفيحائنا، ثمَّ عَبَرهُ إلينا قائلًا: "من ذا الذي يرفض السكنى في قارورة ‏طيب؟ استقبلتني رائحة زهرات النارنج... فهل تريدون لمدينتكم حدودًا أحلى من هذه الحدود ‏التي لا تُرى ولا تُلمس؟ هذه أول مرة أقف فيها على منبر من صنع نيسان، وأنا حزين لأنني ‏لا أستطيع أن أضيف فلذة جمال واحدة إلى هذا المرفأ الذي يغزل الجمال". يردنا هذا إلى ‏ذلك "الشعار الرجعي" الجميل الذي أطلقه ابن بار لطرابلس حين اقترح على من يرشح ‏نفسه لرئاسة البلدية أن يتعهد بإعادة المدنية خمسين عامًا إلى الوراء؟

ونرى في الحاضر الملموس، أن معرض رشيد كرامي الدولي الدرة المعمارية ‏العالمية، تتآكل منشآته، وتصفر قاعاته وردهاته من إدمان الخواء، وأن منطقة اقتصادية ‏خاصة أقرت بين العامين 2008 و2009، نامت في أدراج الانتظار والإهمال واللامبالاة، ‏فما أن تحركت قليلًا حتى عادت إلى سُباتها العميق، وكانت خليقة بأن تكون أشبه "بجبل ‏علي" في دبي، تنشط في نطاقها دورة اقتصادية جبارة. ‏

ليست السطور السابقة رقيمًا أو نشيد حسرة، بل إشارة واضحة إلى أن طرابلس ذات ‏هوية عصت على أنواع العبث وأنسال العابثين: رفضت أن تكون ملاذًا للتطرف، فأهالي ‏الثغور أصدقاء الموج والسفين والأفق، وأبت أن تكون "قلعة"، فسمة الثقافة الإسلامية ‏الانتشار لا التحصن خلف الأسوار المنيعة، وأحبطت الأحلام المريضة، إذ لم يستهوِها يومًا ‏العرَّافون والدجالون والسَّاعون إلى أوائل التاريخ، ولن تكون مختبرًا لمشاريع هجينة، لأن ‏العريقة لا تبحث عن هوية كما ذهب بعضهم، بل أكاد أقول إن دستور الطائف قاس عليها ‏عندما دَوّن أن لبنان بلد عربي، ووطن نهائي لأبنائه جميعًا.‏

لكن علينا الاعترافَ بأنها تكاد تستنزف مناعتها المعروفة، بسبب نقص الأوكسيجين ‏وفقر الدم الحاد، وسوء التغذية الذي أدى إلى تفشي التقرُّحات وانتشار الالتهابات، وتناسل ‏الأوبئة في جسد مدينة لا تشغل حيِّزًا ولو صغيرًا من اهتمام الدولة التي أهملت شؤونها ‏ومرافقها، وإنماءها، ولم تجد ضرورة للعناية بأمنها، بل تركتها نهبًا للدورات العنفية، ‏وساحة مستباحة لمن كان ينوي إسقاط جوهر انتمائها إلى لبنان بتدمير المراكز الرسمية ‏وإحراقها، في استغلال بشعٍ للنقمة العارمة التي تعمر قلوب اللبنانيين جميعهم - ‏والطرابلسيون من أوائلهم - من جراء التدمير المنهجي لبنية الدولة والعبث بدستورها، ‏وصولًا بلبنان إلى الحصار والانهيار وتفشي الوباء وفقدان الدواء وتعميم الفاقه، خدمة ‏لمشاريع سلطوية، بَيِّنَةِ الفساد والفشل. وهذا ما حدا بي إلى الارتياب بأن إحراق مبنى البلدية ‏التراثي صنعته أيد ثلاث، واحدة أضرمت النار، وأخرى كان واجبها منع الحريق فلم تفعل، ‏لأن يداً ثالثة عُلْيا كَبَحَتْها عن ذلك، بل حجرت الماء في حلوق خراطيم الإطفاء، بغرض ‏إسقاط طرابلس من داخلها، بوساطة بعض المراهقين المضللين من أبنائها وبعض الدخلاء، ‏وذلك لمصلحة أغراض سياسية، قد تكشف ظهر الرئيس المكلف وتحمله المسؤولية أو تضع ‏الطرابلسيين كلهم في خانة الشك وتبادل الاتهام بين ساع لزعامة أو متدارك لها أو باحث ‏عن حصته في تركة ضائعة ، فيما يعيث الفاسدون ويستثمرون في البؤس المتمادي لتصديع ‏وحدة الوطن.‏

إن الجولة التي دهمتنا، لن تكون الأخيرة رغم انكشاف أمرها لدى التحقيق الذي ‏يجب أن تعلن نتائجه رسميًّا، ذلك أن القاع الطرابلسي لم يبرأ من البؤر الاحتياطية ‏الإجرامية، ولن يبرأ منها قبل أن تستعيد المدينة مناعتها من خلال استعادة قواها الحيَّة ‏لزمام المبادرة بتشكيل حلقات الضغط ووضع الاقتراحات الإنمائية الملموسة والارتفاع ‏بالخطاب السياسي إلى مستواه الوطني وتوجيه رسائل حاسمة إلى كل الذين يحيقون بها ‏شرًّا، ومن ذلك ما حدث في اجتماع دار الفتوى الذي وضع النقاط على الحروف كلها، ومن ‏ذلك أيضًا تشكيل هيئة أهلية فوق الشبهات، لتكون وعاء للتراحم والتكافل الطرابلسي ‏واللبناني والعربي.‏

نعم، لا بد أن تعود طرابلس موئلًا للتلاقح الفكري، والاختلاف الصحي، وبراحًا ‏لتكايا العلماء حول أعمدة مساجدها وفي صحونها، ومقصدًا لجوارها لأن فضاءاتها لم تزل ‏تنقل أصداء أجراس الكنائس عبر موجات الهواء النظيف. والأهم أنها ستبقى متسلحةً ‏بالخطاب الوطني الصافي المتمسك بالدولة، حدودًا ودستورًا ونظامًا برلمانيًّا وتوازنات. ‏وسيبقى مَصَبُّ "أبي علي" خافقًا ماؤه بمحبة ثلج قاديشا لأن المجرى لن ينحرف عما ‏رسمته خطوط الطبيعة، ولأن "خان الصابون" العريق صرخ قائلاً: هذه الرَّغْوَةُ ليست ‏مني.‏



النهار