هايد بارك

سنبقى موحّدين إلى أبد الآبدين – خالد صالح

تم النشر في 12 كانون الأول 2021 | 00:00

كتب خالد صالح:

الخلودُ يا جبران .. مبنيٌّ على كمّ الذينَ يذكرونَ اسمكَ بعد موتِك .. فإمّا أن يكون الموتُ نهايةً .. أو انتقالٌ للجانبِ الآخرِ .. ومن هناكَ تتفرّجُ على خلودِكَ ..

الجريمة ليست بالضرورة طعنة في القلب أو رصاصة في الرأس .. وليست سكينًا حادة تحزّ عنقًا .. ولا رجلًأ قتلته الرطوبة في أحد المعتقلات .. والرصاصة التي تسمع صفيرها لن تقتلك .. لأنها لسوء حظها مرّت بجانبك ولم تنتبه لوجودك .. سوء حظك أنك في بعض الأحيان لا تُثير انتباه الموت .. لكن في المواجهة مع القتلة .. تكثر احتمالات موتك ..

أخبرني أحد الأصدقاء الذين أكلتهم " عبوة " مباغتة ذات صباح رمادي .. بأن الوطن من أعلى يبدو مثل كذبة بيضاء .. وأن الدماء التي تناثرت على المنحدر .. كي لا تتخثّر عليها أن تظلّ ساخنة ..

لماذا أيها الوطن .. كُلّما أردنا مواجهة قسوتك وتهذيبها .. بعتاب صغير .. يُراق دمنا على حواف طرقاتك .. ولا نتخثر .. تستنزف قلبك في استدراجِ موتٍ على قياسِكَ .. فيأتي الآخرونَ ويقتلونَك .. بحُجَّةِ خطأٍ في الكمين ..

حينَ تصابُ بجُرحين معًا .. في مكانين مختلفين منكَ .. فإنّه ( فيزيولجيا ) سوفُ يُلغي أحدُ جرحيكَ الجُرحَ الآخر .. وذلكَ حسبَ أيّ الجرحينِ يؤلمكَ أكثر .. استيقاظُ جراحكَ كلّها دفعةً واحدةً .. كأنّك تغرق .. كفُّ يدكَ فقطْ فوقَ السّطحِ تلوّح .. فوق سطحِ الألم ..

أنا الطّريدُ الّذي تُلاحقهُ بلادهُ .. والغريب الّذي حين فتّشوهُ أمامَ بابِ ( السّفارة ) وجدوا تحتَ أنقاضهِ أوراقًا ثبوتيّةً كثيرةً .. وعلبةَ كبريتٍ فيها عودُ ثقابٍ واحدٍ .. فاتّهموهُ بكلّ حرائقِ العالم .. أنا اللبناني .. سِردابٌ مخيفٌ تحتَ وسائِدِهم لا يجرُؤونَ على ردمهِ ..

حزينون يا جبران ولكن بشكلٍ جميل .. صرنا من شِدَّتنا نُعلِّقُ آمالنا على خطّ ضوءٍ يفصلُ آخر السَّهر .. عن أوِّلِ استيقاظ الصوتِ في رؤوس الشَّجر ..

نقول :

ما لنا إلّا الرّحيل نأخذُ وضعيّةً على أسرّتنا .. تليقُ بما سنحلمُ بهِ .. غالبًا ما نكونُ مُستلقينَ كمن يطفو على وجهِ ماءْ .. وغالبًا ما نكون نحلمُ بالنّجاة من الغرق .. لا شيءَ يجوبنا من الدّاخلِ .. فراغٌ يحرس الرّوحَ المشاعَ ..

كلّ شيءٍ فينا مُدرَّبٌ على غاراتِ الذّاكرةِ .. حزينونَ ولا أجملَ من حزننا .. أكبر همّنا أنْ ننجوَ .. آخرُ همّنا أن نموت .. وصوت قسمك صار من فرطِ المسافة بيننا .. أشبه بدمدمة مريبة خلف نافذة مغلقة ..

تذكّرتُ يا جبران أن أخبركِ شيئًا عن تلك المقبرة .. لن تكترثَ ليدٍ مكسورةٍ مهما اشتدّ بك الغرق ... إن لم يكن هناكَ على الميناءِ .. من ينتبهُ لموتكَ .. أو على الأقلِّ .. يدٌ واحدةٌ تُلوّح لكْ .. وأنتَ تغرق ..

الأغنيات .. كأنّ ثقبًا في روحكَ يتّسع ..كلّما سمعتَ أغنيةً تذكّركَ بهم ..الذين غادروكَ وحيدًا .. تمرّ الأغنيةُ عبركَ مثل رصاصة .. تثيرُ جرحًا قديمًا .. أغنيةٌ تقتُلكَ .. لكن لن تقتُلك سنبقى موحدين إلى أبد الآبدين ..