هايد بارك

الحريرية الوطنية و"الوسطية الفاخرة"! - خالد صالح

تم النشر في 21 كانون الثاني 2022 | 00:00

كتب خالد صالح:

يقول الله تعالى في محكم القرآن الكريم : "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (البقرة 143) ..

من الإعجاز الإلهي في القرآن الكريم في هذه الآية أنها تقع في منتصف سورة البقرة تمامًا (286 آية)، المنتصف أي الوسط، وفيها "جعلناكم أمة وسطا"، وتعريف الوسط أي نقطة الالتقاء بين ناحيتين متقابلتين أو فكرين متناقضين، الوَسَط أيضا هو رجال السِّياسة المعتدلون الذين تجعلهم وجهات نظرهم في مركز وسط بين اليمين واليسار بلا تطرف أو تغليب فئة على أخرى .

والوَسَط في "الأداء" هو "الاعتدال" في كل شيء، لينٌ من غير ضعف وشدّة من غير عنف، والنأي عن المقولة المعروفة "لا تكن لينًا فتُعصر ولا تكن قاسيًا فتُكسر"، ومن هنا بات القول المعروف "خير الأمور أوسطها" يسري على ألسنة الناس كـ "قاعدة ذهبية" تجعل أصحابها عُرضة للسهام من ذات اليمين وذات الشمال، بحثًا عن فرصة لجذب "الوسط" إليهما .

ما كانت "الحريرية الوطنية" لتنجح من دون التمسّك بهذه "الفرادة" الواقعية، وما كانت لتُشكل عبر تاريخها "محطة تلاقي" في غمرة الإصطفافات الطائفية والمذهبية والأيديولوجية المغلقة، لو أنها رأت بذاتها شبيهة بهذه أو قريبة من تلك، لذلك فإن الأثمان الباهظة التي دفعتها لقاء الحفاظ على "سمتها" لم تدفعها أي فئة، بل أظهرت عجزهم عن تقديم ما يمكنها تقديمه، ومن دون "الحريرية الوطنية" لا وجود لمفهوم "الوسط" في الواقع اللبناني .

في قراءة مبسّطة لواقع الحال لبنانيًا، يتلاشى "الوسط" سياسيًا ودينيًا، والحدّة التي تنقاد إليها المكونات اللبنانية مردّها لعدم امتلاكهم لـ "ثقافة الوسط" ودورها وأنماطها، لهذا فإن المبشّرين بـ "زوال" الحريرية الوطنية، يستهدفون مكامن العجز في دواخلهم، لأن تأدية رسالة الاعتدال دونها مصاعب كثيرة بالنسبة لهم، فقيامتهم مبنية على تموضعهم في زوايا المعادلات وفقدانهم للمرونة في المقاربة والحلول .

جميع الأطراف في لبنان يهابون الموقف المرتقب للرئيس سعد الحريري، ليس فقط من موقع هذا الرجل في إرساء دعائم الاستقرار، بل لإدراكهم أن غيابه عن السياسة يعني غياب المفاهيم الثابتة لمبدأ "الوسطية الفاخرة"، حينها سيضطرون مرغمين للتقوقع داخل مكوناتهم وتحصين مواقعهم الطائفية والحزبية عبر خطابات عامرة بـ "الشعبوية" الهشّة، ويفقدون قدرتهم على التصويب الدائم لأن الساحة خلت من ركيزتها "الوسطية" فانكشفت كل الزوايا المقابلة لهم والشبيهة بهم .

لن يكون قرار الرئيس سعد الحريري نابعًا إلا من هذا "المنهل" الذي ارتوى منه منذ وطأت قدماه وحول السياسة اللبنانية بعد الزلزال الكبير في 14 شباط 2005، ولن يكون الجسر العريض الذي يحمل وطنه وأهله وناسه وجمهوره من ضفة الوسطية إلى ضفّة التطرّف البغيض، ولن يكون "المرجل" الذي يجعل من اللبنانيين وقودًا له، فمن دافع عن الوسطية بكل ما أوتي من قوة، ودفع في سبيلها كل ما يملك، سيكون الرجل القائد الذي يستشعر المخاطر وينأى بوطنه وأهله عن محارق "دُبّرت بليل" ..

لن يقبل سعد الحريري أن يصبح لبنان "مرتعًا" لحركات متشددة، فهذه أوصاف لا تمت لصورة لبنان بصلة، ولن يقبل أن يضع طائفته بين مطرقة "التطرف" وسندان "التفتت"، ولن يقبل التموضع في زاوية مرسومة له مسبقًا، داخليًا وخارجيًا، لأنه أدرك بكل يقين أن المعركة الضارية المفتوحة في وجهه، هي معركة تحويله إلى صورة تشبه بقية الأطراف، لأن الأطراف الفاعلة عاجزون أن يصبحوا مثله في وسطيته التي جعلت منه أنموذجًا يحتذى .

من يعتقد أن سعد الحريري مجرّد رئيس لـ "تيار المستقبل" أو مرشح طبيعي لرئاسة الحكومة، او رئيس كتلة نيابية، هو اعتقاد خاطىء بالشكل والمضمون، سعد الحريري هو "مدرسة الوسطية" الفريدة التي بغيابها ستتشرّع الأبواب على مصرعيها أمام الكثير من "الذئاب" الذين لا يفقهون إلا لغة الدماء، وهذا ما يعرفه بـ "يقين الواثق" وعلى يقينه يبنى الموقف السليم .

لم تأتِ تسمية "بيت الوسط" من فراغ، لأن في هذا البيت يتعملق السلام والأمان والحرص الوطني الحقيقي، ولأن هذا البيت هو "الملتقى" الفعلي لكل الأطياف لأنهم مؤمنون أن "الوسطية" ليست نزهة عابرة، بل هي "رسالة سامية" لن يكون بوسع أحد القيام بمتطلباتها، إلا من يحمل هذا الفكر في روحه وقلبه وفي صلب عقيدته ..

حكما من "بيت الوسط" سيخرج علينا "زعيم الوسط" بالقرار الصائب ..