راشد فايد – النهار
لا أدري لِمَ يُراودني شعورٌ بأن في لبنان صاحبَ مقامٍ ينظر إلى نظيره التونسي قيس بن سعَيِّد بعين الغبطة الأقرب إلى الحسد، لقدرته، وبقرار شخصي منه، على مصادرة كل السلطات، حتى القضائية، وتعليق عمل مجلس النواب، والإطاحة بالحكومات والوزراء.
إعتاد العالم، على مرّ القرن الفائت، على الديكتاتورية كشكلٍ من أشكال الحكم المُطلَق حيث تكون السلطات محصورة في شخصٍ واحد كالملكية، أو في مجموعة معينة، كحزبٍ سياسي، أو ديكتاتورية عسكرية. وحده الرئيس التونسي الحالي رسم ديكتاتورية مختلفة، في وقائعها، عمّا عُرِف من ديكتاتوريات، بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما بعدهما، كالفاشية والنازية والشيوعية، وما شابهها في العالم الثالث من نماذج هزيلة إلى حدّ السخرية. فهذه، في غالبيتها، استخدمت العنف، وحتى المفرط منه، لفرض سطوتها على المجتمع، الذي يحرص على ديموقراطيته في التعبير عن معارضته للحكم على نقيض من يسوسه.
نبّه سعيِّد في حملته الرئاسية نهاية العام 2019 من أن العديد من قضايا تونس الحالية ترجع إلى “عدم احترام العديد من القوانين الدستورية”، وحين أعلن رئيس الحكومة هشام المشيشي في مطلع العام الفائت عن تعديلٍ وزاري شمل إحدى عشرة حقيبة وزارية وتغييرًا في العديد من الوظائف الحكومية، نال الوزراء الجدد ثقة مجلس النواب، لكن الرئيس قيس سعيِّد رفض استقبالهم لأداء اليمين مُتذرّعًا بشبهة فساد وعدم احترام الدستور في مداولات مجلس الوزراء في التعديل الوزاري، من دون أن يحيل الأمر على القضاء المختص. وبعد أشهر من العام نفسه، رفض إصدار قانون أساسي يتعلّق بإنشاء محكمة دستورية، بحجة أنه تم تجاوز المواعيد النهائية. وما لبث أن أعلن عن تولّيه سلطاتٍ استثنائية بعد أشهر من الجمود السياسي، وأزمة اقتصادية حادّة تفاقمت بسبب الوباء الناتج عن فيروس “كورونا”.
شملت إجراءات سعيِّد تعليق عمل البرلمان، ورفع الحصانة عن أعضائه، وإقالة رئيس الحكومة ومسؤولين كبار آخرين من مناصبهم، وتولّي الإشراف على النيابة العامة. وفي 24 آب/أغسطس الفائت، وسّع سعيّد الإجراءات الاستثنائية، وأعلن تمديدها إلى أجل غير مسمّى. وفي 29 أيلول/سبتمبر، عيّن المهندسة نجلاء بودن رمضان رئيسةً للحكومة، وفي 24 تمّوز، مدّد حالة الطوارئ إلتي فُرضت أول مرّة في العام 2015 بعد سلسلة من الهجمات الإرهابية.
تتشابه حال تونس مع لبنان في أمورٍ كثيرة من أبرزها ارتهان الوضع المالي للبلدين بالمرجع نفسه، وهو صندوق النقد الدولي، الذي تتقدم مفاوضات البلدين معه حينًا، وتتجمّد أحيانًا، إنتظارًا لإصلاحات عامة، وتحقيق توافق واستقرار سياسي يسهل تحديد الاحتياجات، التي تصعّبها إجراءات أحادية نفّذها الرئيس التونسي شملت عزل البرلمان، وإقالة الحكومة وإجراءات فردية أخرى.
ما يُجنّب لبنان استنساخ التجربة التونسية ليس تعفّف الحاكم الذي لم يألُ جهدا للإقتراب مما يشابه ذلك، بل هو التوازن السياسي والحزبي الدقيق، كما الإنقسام العمودي بين المكوّنات المجتمعية طوائف وأحزابًا، فهو حين هُيّئ له أنه سينجح في ذلك لم يُقصّر، بدليل محاولاته تحريف النصوص الدستورية والقانونية، لا سيما على حساب رئاسة مجلس الوزراء، وإعادة صلاحيات رئيس الجمهورية إلى ما كانت عليه قبل “اتفاق الطائف” الذي أناط السلطة بمجلس الوزراء مجتمعاً، في حضور رئيس الجمهورية أو غيابه.
الفارق بين رأسي الدولتين أن أحدهما يمارس الحكم بمنطق “أنا الدولة، والدولة أنا”، بينما الآخر يتعاطى الحكم بمنطق”أنا… أو لا دولة”