زياد سامي عيتاني*
في مدينة بيروت، ما قبل الحرب المدمرة المشؤومة، وتحديداً في قلبها النابض، أي وسطها التجاري بساحاته وأسواقه ومبانيه ومحلاته ومكاتبه وباعته المتجولين..الذي كان في حركة دائمة لا تهدأ لا نهاراً ولا ليلاً.. ما أكثر ألوان الحياة فيها، حيث يلتقي الفقر بالغنى، والجمال بالقبح، وسرعة الزمان ببطئه، في مشهدية ومشاهدة بالغتا التناقض، المنسجم عفوياً، دون كلفة ولا مجهود...
وكم كان مألوفاً مشهد بائعي الصحف، الذين كانوا جزءاً من "عجقة" المدينة، وعلى مدى عقود طويلة، حيث كان في ذلك الزمن للجريدة الورقية إعتبارها وحضورها، حيث أن الجمهور إرتبط بها قديماً لكونها المنبر التنويري الوحيد والنافذة التي يرى الناس من خلالها ما يدور في العالم، قبل أن تفوز عليها تباعاً بالنقاط "الترنزستر" و"الراديو"، ثم محطات التلفزة (زمن الأبيض والأسود)، إلى أن قضت عليها بالضربة القاضية ثورة الإتصالات والفضائيات والمواقع الإلكترونية والهواتف الذكية ووسائل التواصل...
شخصية "بياع الجرايد" تختصر حكاية الورق والحبر.. كان يستيقظ قبل الفجر، ينتظر أمام مستودع شركة التوزيع، إلى أن يضع مدير التحرير آخر لمساته على الصفحات، حتى تنساب الصحيفة إلى المطبعة لطباعتها، فيما القراء غارقون في النوم، فمهنته لا تعرف النوم، عليه تلقف صدور الصحف، وكأنها وليدهم الأول.
فلا يمكن لأي شخص أن يعمل في هذه المهنة إلا إذا كان يحبها، فهي تجمع بين الشقاء واللذة، إذ عليه أن ينطلق بحثاً عن مورد عيشه، قي الصيف والشتاء، وعليه أن يتغلب على برد وأمطار الشتاء، وحرارة الصيف...
وكان بائعو الصحف حينذاك بمثابة إذاعات نقالة، رغم جمود أخبار صفحات الجرائد، حيث أن أنباءها غير عاجلة ودون "فلاشات" من مكاتب التحرير! (علماً صحفاً لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة كانت تصدر ظهراً ومساءً)، فوقتها كانت البلاد والعباد تنعمان بالأمن والأمان، وإيقاع التطورات السياسية بطيئاً، خلاف كل أوجه الحياة اليومية في المدينة المزدحمة بالحيوية، فلا حاجة تستوجب التتبع المتواصل للأخبار، التي تجلب "وجع الراس" حسبما كانت تردد العامة في ذلك الزمان...
كذلك كان بائعوا الصحف يتوزعون إلى عدة أقسام، منهم من "يبسط" صحفه على رصيف ما (تحديداً المباني الكبرى، لا سيما "الريفولي"، "اللعازارية"، "العسيلي")، ومنهم من كان يركب دراجته الهوائية لتأمين الصحف للمنازل باكراً لمن إعتاد قراءتها مع قهوته حيث يضعونها عند قبضة الباب، وكانوا يقبضون أثمان الصحف من صاحب البيت مرة في الأسبوع، وفي نفس الوقت يحاولون أن يصطادوا زبوناً على الطريق، ومنهم من كان يبيع الصحف، متأبطا رزمة الجرائد، متجولاً في الساحات والأسواق والشوارع والأزقة، التي إرتبطت بأشخاصها الدائمين، ومنهم بائعي الصحف الذين تركوا أثراً بالغاً فيها.
القاسم المشترك بين بائعي الصحف هو مناداتهم بأعلى صوتهم بأسماء الصحف وعناوينها وما تتضمنه من أخبار مثيرة، لكي يجلبوا المشترين المارين في الشوارع والأزقة، أو في "كاراجات" سيارات الأجرة، أو أمام محطات "الأوتوبيس" (جحش الدولة).
يذكر في هذا السياق أن عدداً كبيراً من بائعي الصحف في وسط بيروت التجاري كانوا يؤجرون الصحف(!) لزبائنهم الدائمين موضع ثقتهم، إذ يحصل القارئ على صحيفته المفضلة صباحاً، ويردها للبائع ظهراً بعد قراءتها، وبدلاً من أن يدفع ثمنها كاملاً ٢٥ قرشاً، كان يدفع ١٠ قروش فقط!!!
الملفت أن عدداً من بائعي الصحف علمته المهنة أن يكونوا قراء محترفين ومتذوقين للأدب والشعر، يناقشون زبائنهم في السياسة والثقافة والإقتصاد والرياضة، الذين كانوا بدورهم يبادلونهم الحديث في الأدب والشعر والسياسة وهم يشترون الصحف، ومنهم إعلاميون وكتّاب، يكتسبون حوارهم معهم الثقافة الشعبية...
مع إنحسار الصحافة الورقية التي تنازع من أجل البقاء أمام تحديات الثورة التكنولوجية، التي باتت تقدم الأخبار والمعلومات للجمهور بطريقة أسرع، رغم أن القراء القدامى للصحف ما زالوا يشعرون بلذة ملامسة أوراق الصحف وشم رائحة حبرها.. فإن بائعي الصحف المتجولين قد إختفوا عن أرجاء المدينة، رغم أن أصوات منادتهم ما زالت أصداؤها في ذاكرة الجيل القديم...
*باحث في التراث الشعبي.