هايد بارك

"الستالينية"، وسيكولوجيا السلطويين! -محمود القيسي

تم النشر في 28 آذار 2022 | 00:00

كتب محمود القيسي:

جيوشٌ تركضُ في شوارعَ من دمٍ.. تلوِّحُ بقناني النبيذ…

شيخٌ في غرفةٍ رخيصةٍ .. دونما صور…

في هذا العالم .. ثمة وحشة عظيمة…

لسنا بحاجةٍ لحكوماتٍ جديدة.. لثورات جديدة…

لأسِرَّةٍ محشوة بالماء.. لساعات تعرض اليوم والتاريخ

لا وداد بين البشر.. الواحد ضدٌّ الواحد

الى الجحيم بماركس؛ خائفون نحن

ما نحتاجه: قدر أقلّ من الذكاء.. قدر أقل من التعليمات

ما نحتاجه.. عدد أقل من الشعراء

ما نحتاجه، مزيد من العصافير…

هكذا نحن.. لا نفكر برعبِ إنسانٍ أوحد

يتوجع في مكان أوحد.. لا يلمسهُ أحد

لا يكلمه أحد.. لأنه ما من أحد!

*تشارلز بوكوفسكي

مما ينسب إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قوله في بداية توليه حكم روسيا الاتحادية تعليقا على حادثة تفكك الاتحاد السوفياتي: "من لا يراوده الأسى لغياب الدولة السوفياتية.. إنسانٌ بلا قلب، ومن يعاوده التفكير في إمكانية إعادة مثل هذه الدولة.. إنسانٌ بلا عقل". تعرف ويكيبيديا "السلطوية" على النحو التالي: "هي إحدى صور الحكومة والتي تتسم بحكومة مركزية قوية وحريات سياسية محدودة. تخضع الحريات الفردية للدولة ولا توجد مساءلة دستورية في النظام السلطوي. ميز وصف خوان لينز المؤثر في ١٩٦٤ للأنظمة السياسية السلطوية بأربع سمات:

١ - جمعية سياسية محدودة، والتي تضع في هذه الأنظمة ضغوطا على المؤسسات والجماعات السياسية مثل السلطة التشريعية والأحزاب السياسية وجماعات الضغط.

٢ - تأسيس الشرعية السياسية على المشاعر، خاصة الاعتراف بالنظام كشر لا بد منه لمحاربة "المشاكل المجتمعية الملحوظة" مثل التخلف أو أعمال العنف والشغب.

٣ - تعبئة اجتماعية دنيا ناتجة غالبا عن الضغوط المفروضة على العامة مثل قمع الخصوم السياسية والحركات المعادية للنظام.

٤ - قوة تنفيذية معترف بها بصورة غير رسمية مع انتقال مبهم للسلطة.

في التعريف اليوناني لمفردة السلطوية يجيء أنها السلطة الواحدة والمطلقة التي لا تراعي أو تخضع لأي قانون أو قاعدة . وللفظة (السلطوية) في التراث العربي كثير من المترادفات التي تحيل على التعسف والتحيز لوجهة نظر واحدة، وطالما كانت السلطوية هي صنيعة الأقوى الذي يمارس وسائل متعددة ضد منطق العقل، والسلطوية هي بمنزلة سلطة قامعة تخنق الآخر وتصادر رأيه، وتمنع عنه حرية التعبير والمشاركة، وبالتالي فإن السلطوية كمفردة، هي صورة من صور الامتهان لكل القيم الأخلاقية والجمالية التي هي حق من حقوق الناس، وتعبير عن حيواتهم، بكل ما تمثل من حلم وانتصار للقيم على اختلاف تنوعها ومصادرها .

قالت العرب قديما: «كل إناء بما فيه ينضح»، وحسب سياقات الاستعمال، فغالبا ما أخذت المقولة معنى هجائيا تجاه أشخاص أو أوضاع. وبعيدا عن أي معنى قدحي، فالجملة القصيرة تختزل ما يمكن أن تكون قد فصلت فيه أبحاث سوسيولوجية أو سيكولوجية وحتى من العلوم السياسية. وحين يخرج المرء من علوم السياسة بصفتها نواميس وقواميس ومفاهيم، ويدخل السياسة ممارسا أو متفاعلا في إناءها، فغالبا ما تتنحى المعرفة العلمية لتفسح المجال لخطابات العارفين بكل شيء، وتغدو السياسة الظاهرة أو سياسة المظهر مجالا للغو والفرجة أحيانا، بدل صراع الأفكار والمشاريع المجتمعية، فيقع تسطيح كل شيء، حتى تصير الكلمة الرصينة يتيمة لدى السامعين، وأحيانا مثار ضحك وسخرية لأنها لم تتدحرج على سطح أو على خشبة مسرح الانتهازية السياسية.

وقال الكاتب اللبناني أمين الباشا إن الأنظمة التي سادت خلال الستة عقود الماضية، اربكت أفكار وأقلام وأحلام الكتّاب من روائيين وقصاصين والشعراء باستثناء بعض المحاولات التي أقدم عليها قلة من المتنورين العرب أمثال الكواكبي، ومحمد عبده في مصر، وجبران خليل جبران، وأمين الريحاني في لبنان، وبعض الشعراء أمثال محمود درويش، ونجيب سرور، وأدونيس، ومحمد الماغوط، لكن أياً من هؤلاء الكتّاب والمفكرين والشعراء لم يشر مباشرة إلى الدكتاتور العربي، ويلفت الباشا إلى صورة الطاغية، كما تناوله أدب أمريكا اللاتينية وهي التي سبقت أن عانت شعوبها ما تعانيه الشعوب العربية اليوم، ويشير إلى روايات عظيمة مثل السيد الرئيس لميغل انخيل استورياس، ومائة عام من العزلة لغابريل غارسيا ماركيز التي تصور عبور أمريكا اللاتينية بعد قرن من الدكتاتوريات إلى الديمقراطيات، كذلك ماركيز في روايته الرائعة الجنرال في متاهته صور فيها نموذجاً فريداً من الطغاة وأقدارهم العجيبة.

نعم، الطغاة وأقدارهم العجيبة والمصيبة التي دائماً ما تقع على رؤوس الشعوب.. والتي تدفع ثمنها دائمآ الأجيال القادمة إجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وسيكولوجياً ووجودياً. ونحن بمحض الصدفة ما زلنا هنا احياء.. ما زلنا احياء ونشاهد بأم العين.. نشاهد بأم العين والحواس الأخرى مجتمعة - مجتمعة في غياب "العقل" كيف "يعيد" تاريخ ألامس القريب نفسه على الشعوب والأجيال القادمة بما تعنيه المأساة الإنسانية من معنى… والمهزلة التراجيدية كذلك؛ في استقبال مولود العالم الجديد.. استقبال المسخ الجديد. يشير رونالد جراي في كتابه “فرانز كافكا” إلى أن اسم كافكا أصبح كلمة دالة على فظائع القرن العشرين، إذ يُمثل كافكا نموذجا متطرفا للكاتب الذي سلّم نفسه لكل القوى القادرة على تدمير الإنسان، من دون أي محاولة منه لإعاقة طريقها بالوعي، ويبدو العالم من خلال نصوصه عالما باليا متكررا على نحو ما، تكون فيه الذات محتقرة، وغير ذات معنى ولم ترتقِ لمرحلة الإنسانية بعد، ولتصل الذات لمرحلة الإنسانية عليها خوض رحلة كابوسية مخيفة، ليس من أجل استعادة وعيها، وإنما للدخول في مزيد من الكوابيس والفظائع.

نعم، الدخول في مزيد من الكوابيس والفظائع في "قرن" الكوابيس والفظائع.. القرن الواحد والعشرون.. في تمام "الساعة الخامسة والعشرون"، أو بالأحرى في رواية (قسطنطين فيرجيل جيورجيو) الساعة الخامسة والعشرون الذي يقول في مقدمة الصفحة الأولى من الكتاب: "كل صفحة من كتابي كتبت بالدم، دمي، دم أصدقائي، دم أولئك الذين عانوا والذين ما زالوا يعانون في المعتقلات، أجل كل ما كتبه تريان عن المجتمع التقني في الرواية حول تحويل الإنسان إلى آلة هو ما أفكر فيه فعلا”. هو ما أفكر فيه الان حيث ان الحياة أسمى من الفكر، تبدو هذه المقولة فلسفية جدا ومُوغلة في التجريد، لكن بمجرد أن نترك وراءنا تنظيرات العلوم الإنسانية والتاريخية ونتجّه للأدب تبدو الجملة مقنعة ومفهومة تماما، إن ما يجعل الفن والرواية جزءا من الحياة أنها حافظة لتجربة الإنسان ومُوثّقة لحاضره وماضيه، فالرواية توثيق لتاريخ واسع لم يكتبه المؤرخون ولم تُحط به الأفلام ولا الصور، تاريخ من التفاصيل والقصص الصغيرة تُشكل في مُجملها حياة الأفراد داخل حدث تاريخي ما ربما لم نكن لنعرف أي شيء عن أوجاع وآمال من عاشوا خلاله إلا من خلال الأدب.. أدب الحرب، وثقافة الأوجاع… إلى الجحيم بماركس مرة ثانية.. وإلى الجحيم بآدم سميث عشرات المرات!

عندما تربع يوسيف فيساريو موفيتش دوجوغاشفيلي، أو كوبا (العاصي) كما كان يعرف في بداياته الحزبية الأولى، أو ستالين (الرجل الفولاذي) في ذروة قوته المطلقة على عرش "الشيوعية" الاحمر في أتحاد "لينين" السوفياتي الاحمر.. العرش الذي أصبح في تلك الفترة ولمدة طويلة ومرعبة من الزمن عرش ستالين حصرياً، أو عرش ستالين "أبي الشعب" كما وصفته مكينات التجييش "اليسارية" الهائلة والكثيفة في بلاد سوفيتات الرفيق لينين العليا، واليسار العالمي التحريفي وشاهد الزور "الثوري".. أو "بيّ الكل" لدي اليسار الشيوعي اللبناني ومشتقاته.. وشيخ مشايخ "المشاعية البدائية"، أو الشيوعية العربية اليسارية التقليدية الكلاسكية عند الأحزاب اليسارية العربية التي كانت دائماً حريصة على حمل المظلة أو "الشمسيّة" حين تمطر في موسكو "الآلهة" - الآلهة السوفياتية القديمة الجديدة.. في أوضح تعبير عن التبعية السياسية، والانتهازية السياسية،" والابتذال السياسي تاريخياً. هذا ناهيك، عن اؤلئك الذين يصلون في هذه الأيام المصيرية العصيبة على مذهب "ممانعة" إحدى الإمبرياليات الاستعمارية القديمة الجديدة…

في إحدى مخاوفه التاريخية قال الفيلسوف الفرنسي إدغار موران إنه علينا أن ندرك جيدا أن علم المستقبل لا جدوى منه وأن المستقبل البشري سيكون مليئا بالمفاجآت والشكوك، لكن من المؤكد أن النزاعات البشرية ستظل متواصلة، ناهيك عن أنها تنذر بتفاقم العنف والجهل أكثر من تعزيز الوعي. الأزمة التي نشهدها معرفية ونعيش في عصر تبلغ فيه القوة المطلقة والعجز البشري ذروتهما.. في عام ١٩٤٥ أنذرت القنبلة النووية التي ضربت هيروشيما بإمكانية إبادة الجنس البشري بأكمله تقريبا، وهو احتمال عززه انتشار الأسلحة النووية لاحقا، خاصة في الدول المعادية لبعضها البعض، وفي حالة نشوب حرب نووية عالمية لن تنجو سوى جزر قليلة، وهكذا لم تجعلنا هذه القوة سوى أكثر عجزا، بحسب فيلسوف فرنسي شهير بلغ مئة عام وعايش الحرب العالمية الأولى.. والحرب العالمية الثانية.

عشية ثورة اكتوبر الكبرى عام ١٩١٧ أصبح ستالين عضواً في المكتب السياسي للحزب شأنه شأن ليون تروتسكي. وبالرغم من الدور المتواضع الذي لعبه في إنجاح الثورة، بالمقارنة مع دور تروتسكي، فقد عين بعد انتصارها مفوضاً لشؤون القوميات، وكلف بمهمات تنظيمية داخلية، مكنته، منذ تلك الفترة، من بسط سيطرته على الجهاز الحزبي، ومن الوصول إلى منصب الأمين العام للجنة المركزية في ٣ نيسان - أبريل ١٩٢٢. وقد تنبه لينين، ولكن بعد فوات الأوان، لخطر تركيز كل السلطة في يد ستالين، وخطر ذلك على سياسة الحزب، فكتب في وصيته يقول: "إن الرفيق ستالين قد ركز في يديه قوة هائلة عندما أصبح أميناً عاماً. ولست متأكداً من أنه يعرف كيف يستعمل هذه القوة بالحذر الكافي". لا بل انه ذهب إلى أبعد من ذلك في ملحق وصيته فنصح "بإزاحة [ستالين] عن هذا المنصب وتعين رجل آخر مكانه". إلا أن موازين القوى داخل الحزب وبنية الحزب ذاته والقوة الاستثنائية التي يتمتع بها الأمين العام في الحزب الشيوعى، إضافة إلى مناوراته السياسية وقدرته الفائقة على المناورة وطموحه الجارف للسلطة… كل هذا جعله يتغلب على معارضيه واحداً بعد الآخر ويفرض نفسه حاكماً أوحد للحزب والدولة. وهكذا فقد تحالف مع غريغوري زينوفييف وليف كامينيف ضد تروتسكي، ونجح في فرض سياسة "الاشتراكية في بلد واحد" بدل سياسة تروتسكي القائمة على "الثورة الدائمة" ثم انقلب على حليفيه وأبعدهما عن القيادة بتهمة "اليمينية" ونفى تروتسكي عام ١٩٢٩ تمهيداً لاغتياله عام ١٩٤٠ في المكسيك. ولم يكتفي ستالين بإبعاد معارضيه الحقيقيين بل عمد، إبتداءً من ذلك الحين، إلى تركيز دعائم سلطته الشخصية المطلقة التي لا تقبل النقاش ولا المعارضة ولا الشفقة ولا التساهل فأقام دكتاتورية حمراء، فنظم ما بين ١٩٣٤ و ١٩٣٨ سلسلة محاكمات شهيرة عرفت بمحاكمات موسكو كانت ذريعتها اغتيال كيروف معاون ستالين وشملت كل المعارضين، أو المعارضين المحتملين للحكم الستاليني من المفكرين والحزبيين والمسؤولين الحكوميين، وحتى بعض الشيوعيين غير السوفييت، وكان من أبرز من شملتهم التصفيات كامينيف وزينوفييف. وكان ستالين قد تخلى منذ عام ١٩٢٨ عن "السياسة الاقتصادية الجديدة" التي كان الحزب قد أقرها للتخفيف من وطأة شيوعية الحزب التي طبقت فور أنتصار الثورة عام ١٩١٧، وبدأ سياسة تصنيع شاملة قائمة على التخطيط المركزي الصارم، كما عمد، في ميدان الزراعة، إلى فرض نظام التعاونيات بشكل صارم لا مرونة فيه. وقد قمع ستالين كل معارضة لسياسته هذه بدون رحمة ولا هوادة، فمكنه ذلك من تحديث البلاد في فترة زمنية وجيزة رغم أن الثمن الذي دفعه الشعب من حريته ورفاهيته وحياته نفسها كان باهظاً جداً.

خرج الاتحاد السوفيتي بزعامة ستالين من الحرب العالمية الثانية قوة عسكرية عظمى، رغم العشرين مليون قتيل سوفييتي الذين ذهبوا ضحيتها، كما أمتدت هيمنته على كل أوروبا الشرقية التي ساهم الجيش الأحمر في تحريرها. وقد عرف ستالين في هذه الفترة أوج شهرته. ومع بداية الحرب الباردة وخروج الرئيس اليوغوسلافي تيتو على السياسة الستالينية عام ١٩٤٧، شن ستالين حملة تطهير دموية جديدة في صفوف الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية، كما اتخذ موقفاً "مؤيداً" من "تقسيم" فلسطين عام ١٩٤٨ جاراً وراءه كل البلدان الاشتراكية وقيادات الأحزاب الشيوعيه "العربية". وفي عهد ستالين امتلك الاتحاد السوفييتي عام ١٩٤٩ وفي ظل تصاعد الحرب الباردة، قنبلته الذرية محطماً بذلك احتكار السلاح النووي، وفارضاً نوعاً من الأستقطاب الدولي الثنائي وتوازن الرعب النووي. وبعد "وفاة" ستالين بثلاثة أعوام القى خروتشوف تقريراً شهيراً أمام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي في ٢٥ شباط - فبراير ١٩٥٦ اشتهر باسم تقرير خروتشوف. التقرير الذي أعتبر أهم وثيقة تتعلق بتأريخ الستالينية ومجموع الممارسات والمبادئ التي تميز بها حكم ستالين من عام ١٩٢٤ إلى ١٩٥٣. التقرير الذي تضمن تهماً خطيرة، أهمها: الطغيان، والانحراف عن مبادئ الثورة، وخرق الشرعية القانونية، وتزوير التاريخ، والعزلة عن الجماهير، وصنع المؤامرات لتبرير إجراءات البطش، وخلق عبادة الفرد. وتثير كل هذه التهم مسألة تقويم الدور التاريخي لقيادة ستالين للحزب والدولة السوفييتية وأثره في الحركة الاشتراكية العالمية. كما تثير مسألة تقويم الكثير من المفاهيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والايديولوجية والأساليب العلمية التي صاغها ستالين أو التي أدت الى ظاهرة "عبادة الفرد" في ظل الحكم الستاليني... "عبادة" ستالين شخصياً.

يستكشف الأكاديمي البارز، بروفسور جيفري روبرتس، الكتب التي قرأها الديكتاتور الأشهر في القرن العشرين، جوزيف ستالين، وكيف قرأ الكتب التي حوتها مكتبته… وبعد أن خاض روبرتس في الأرشيف الروسي، وكانت نتيجة البحث، كتاب صدر حديثاً عن جامعة يال الأميركية، بعنوان «مكتبة ستالين»، كشف فيه عن أن ستالين كان «دودة قراءة» كما كتبت غالية قباني في مقالها الذي نشر في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ ٢١ آذار ٢٠٢٢… وتستطرد قباني، من الغريب أن نعرف الآن بعد سبعين سنة تقريباً على وفاته، ومن خلال هذا البحث العميق والجمع المثابر للأدلة من الوثائق، أن ستالين، «كان يؤمن إيماناً راسخاً بالإمكانيات الكبيرة للكلمات»… وحسب الوثائق، قد ترك حوالي ٢٥ ألف كتاب، متنوعة بشكل مدهش، وقام بالتعليق على العديد منها في هوامش الكتاب أثناء قراءته، أو واضعاً خطوطاً تحت بعض الكلمات والجمل أو حول فقرة معينة، كاشفاً عن أفكاره ومشاعره ومعتقداته الخاصة، خصوصاً أنه لم يكن يسجل آراءه في يوميات ولا أصدر أي كتاب… ركزت قراءات ستالين، في غالبيتها، على كتابات منافسيه لخلافة لينين في زعامة الحزب، لا سيما، غريغوري زينوفييف، ليف كامينيف، ونيكولاي بوخارين. وقد لقي الثلاثة حتفهم في عمليات التطهير الحزبي، بينما اغتيل ليون تروتسكي في المكسيك عام ١٩٤٠، لكن كتبهم جميعاً بقيت على رفوف مكتبة ستالين جاهزة للمطالعة. كان التاريخ من الاهتمامات الدائمة لستالين، خصوصاً التاريخ الروسي، مفتوناً بالمقارنات بين حكمه وحكم بطرس الأكبر ١٦٧٢ - ١٧٢٥، أحد أهم قياصرة روسيا على مستوى القوة والإصلاح، وحكم إيفان الرهيب (أول من توج نفسه قيصراً في روسيا وصاحب الأفعال الوحشية في القرن السادس عشر). يقول جيفري روبرتس، إن الكتاب الأكثر تميزاً في مجموعة ستالين، هو «تاريخ صعود وسقوط الإمبراطورية الرومانية»، ألفه مؤرخه المفضل، روبرت فيبر، المتخصص في التاريخ القديم، الذي كتب أيضاً سيرة ذاتية لإيفان الرهيب. يضيف روبرتس، بأن العديد من الأكاديميين قبله، جابوا بقايا مجموعة ستالين، على أمل إلقاء نظرة على الطبيعة الحقيقية لهذا الديكتاتور، أو العثور على «مفتاح الشخصية التي جعلت حكمه وحشياً للغاية».

لم يجد روبرتس أي أدلة، لكنه اقترح، أنه «باتباع الطريقة التي يقرأ بها ستالين الكتب، يمكننا أن نلمح العالم من خلال عينيه. قد لا ندخل في روحه، لكن علينا ارتداء نظارته». وجد ستالين بين كتبه العزاء والغذاء الفكري، لكنه عزاء لم ينقذ أخلاقياته ولا جعله بضمير صاح، فقد قتل منافسيه في الحزب، وأنزل العقاب بالكثير من المواطنين السوفيات. ووفقاً للصحافي والكاتب الروسي، فيتالي شينتالنسكي، في كتابه (الأرشيف الأدبي للاستخبارات السوفياتية)، فقد قضى ما يقرب من ١٥٠٠ كاتب خلال فترة «التطهير العظيم» (١٩٣٦ - ١٩٣٨). كانت حملة جوزيف ستالين، لترسيخ سلطته وفرضها على الحزب والأمة؛ وقد تم تصميم عمليات التطهير، أيضاً، لإزالة النفوذ المتبقي لليون تروتسكي والمنافسين السياسيين الآخرين داخل الحزب. أعجب ستالين بالأدباء والكتاب، وأخبر مؤتمر الكتاب السوفيات عام ١٩٣٤، أنه بينما كانت هناك حاجة إلى المهندسين المدنيين لبناء الاشتراكية، تطلب البلاد أيضاً «مهندسي الروح البشرية». غير أن تأميم صناعة النشر، كان من أوائل قرارات البلاشفة بعد استيلائهم على السلطة في روسيا عام ١٩١٧، وإدراكاً منهم لإمكانية استخدام الكلمات ضد النظام السوفياتي، فقد أنشأوا نظاماً رقابياً متطوراً للسيطرة على إنتاج الصحف والمجلات، ودور النشر والمطابع. ومع ذلك، أعفى ستالين نفسه من هذه الرقابة، واحتوت مكتبته الخاصة على العديد من المجلدات المحظورة التي ينتمي بعضها لأعدائه… لم يحتفظ ستالين بمذكراته ولم يكتب مذكرات، لذلك أصبحت هذه المخطوطات والهوامش داخلها مستثمرة بأهمية أكبر مما تستحق. يحذر روبرتس من ذلك، مثل وضع ستالين خطوطاً تحت جملة منسوبة إلى جنكيز خان: «موت المهزوم ضروري لراحة بال المنتصرين»، أو افتراض أن الكلمة المبتكرة «المعلم»، على غلاف مسرحية عن إيفان الرهيب، تعني أن ستالين كان ينظر إلى هذا الطاغية على أنه نموذج يحتذى به. هذا ناهيك، إن المقولة التي نسبت لستالين، ومفادها، أن «حالة وفاة واحدة مأساة... أما المليون فإحصائية»، هي في الحقيقة ملفقة.

لا يزال كامو متربعاً على المشهد الثقافي والفكري، وما أن داهم وباء كورونا العالم بهجمته الشرسة حتى تصدّرت رواية "الطاعون" قائمة أكثر الكتب مبيعاً ومقروئية، وتردد المحجورون برفقته في هذا العالم المسكون بالخوف والأشباح جيئة وذهابا، كذلك الأمر عندما تدوّي صفارات الحرب نعاينُ من جديد مقالات كامو التي كتبها خلال انقسام العالم إلى القطبين الإشتراكي والراسمالي، وهو يؤكدُ أن العالم الذي يسعى إليه أناس مثله ليس عالماً لا يقتلُ فيه البشرُ أحدهما الآخر، موضحاً إنه ليس بهذا المستوى من الجنون. بل كل ما يطالبُ به هو وجود عالمٍ لا تتمُّ فيه شرعنة الجريمة. يقول الأديب والشاعر محمد الماغوط في إيجاز شكسبيري عن الثورات والقادة والعشاق والعلماء والكتب والدساتير والأديان والحروب والحزن والبرد والسجن والجوع والموت: "فليذهب القادة إلى الحروب.. والعشاق إلى الغابات.. والعلماء إلى المختبرات.. أما أنا.. فسأبحث عن مسبحةٍ وكرسيٍ عتيق ... لأعود كما كنت، حاجبا ً قديما ً على باب الحزن.. ما دامت كلّ الثورات والكتب والدساتير والأديان.. تؤكد أنني لن أموت.. إلا جائعا أو سجينا".. نعم، جائعا، أو سجينا أو قتيلا.. هل حقاً ماتت الستالينية.. الشرقية منها، والغربية؟ هل حقاً مات ستالين؟؟… تستطيعون قطف الزهور كلها.. كما يقول بابلو نيرودا.. ولكنكم أبدا لا تستطيعون وقف زحف الربيع..!!!