هايد بارك

"الأنظمة الراسخة".. هياكل للقسوة المستمرة! -محمود القيسي

تم النشر في 4 نيسان 2022 | 00:00

كتب محمد القيسي:

.. على درب الغابة مشيت.. موقظاً أنفاساً لاهثةً..

والأجنحة تخفق بلا ضجيج.. أولُ شيءٍ أغواني، على الدرب..

كان زهرةً همست لي باسمها.. فركضت خلفها..

من أعلى الدرب، انحدر الفجر والطفل إلى سفح الغابة..

حينما صحوت.. كان منتصف النهار!

* آرثر رامبو - مقتطفات من قصيدة "الفجر".

"اليوم يكون قد مضت مئة سنة بالضبط منذ أن قام شاعر تعس ولامع، أحد أشد الأرواح اليائسة روعة، بكتابة نبوءته التالية: "عند الفجر، مسلحين بصبر متوهج، سندخل المدن الرائعة". إني أؤمن بتلك النبوءة الصادرة عن رامبو، ذي الرؤى. إني آتٍ من منطقة جهماء، من أرضٍ تفصلها جغرافيتها المتحدرة الحادة عن بقية الأراضي. كنت أشد الشعراء عزلة وكان شِعري إقليميا حزينا ماطرا. بيد أنني كنت دائما أثق بالإنسان. ولم أفقد الأمل أبدا.

لذلك فقد وصلتُ مع شعري حتى هنا، ومع رايتي كذلك. وفي الختام، ينبغي أن أقول للناس ذوي النوايا الطيبة، للعاملين، للشعراء، إن المستقبل قد عبّر عنه ذلك السطر الذي خطّه رامبو: ذلك أنه بصبر متوهج فحسب يمكننا أن نغزو المدينة الرائعة التي سوف تمنح النور والعدل والكرامة إلى كل بني الإنسان. وبهذا، لن يكون الشِعر قد صدح بأغانيه عبثا".

*من الكلمة التي ألقاها الشاعر التشيلي الكبير بابلو نيرودا لدي تلقيه جائزة نوبل في الأدب، في قاعة ستوكهولم بالسويد عام 1971. حُقن بابلو نيرودا لاحقا حتى الموت فى إحدى "مصحات" تلك الأنظمة الراسخة في تشيلي تلك الأيام ولم يرى المدينة رامبو الرائعة… وأختفي، أو قتل الشاعر "اللغز" آرثر رامبو في غابات افريقيا الكثيفة.. أو في تعبير أدق، في إحدى غابات الأنظمة الراسخة.. ولم يدخل مدينته الرائعة التي سوف تمنح النور والعدل والكرامة إلى كل بني الإنسان.

معادلة بسيطة في الرياضيات الفيزيائية أو في سياسة الفيزياء الرياضية: حيث ان الفيزياء الرياضية تتسم بالنزعة الرياضية غير المسبوقة في أي من العلوم الأخرى. إذ تحاول الفيزياء إيجاد حلول رياضية لتفسير الظواهر الطبيعية وصياغتها في نظريات شاملة. والنظرية "السليمة" هي تلك النظرية التي "لا تقتصر" على تفسير ظاهرة معينة فقط بل "يمتد تطبيقها" إلى "التنبؤ" بنتائج لظواهر أخرى تتعلق بالظاهرة التي تم تفسيرها رياضياً.

- الولايات المتحدة الأمريكية... إفتعلتْ الأزمة الإقتصادية العالمية 1929 - 1931، ما أدى الى انهيار الإقتصاديات الأوروبية لصالحها، وإلى إضطرابات إجتماعية وضعف ثقة شعوب أوروبا بحكوماتهم وسياسات تلك الحكومات.

- تلك الأزمة حررت المانيا من تعويضات الحرب الأولى فانتعش إقتصادها، وبرز فيها الحزب النازي مدعوماً من الولايات المتحدة الامريكية بهدف تخريب أوروبا. وعندما استكمل مهمته إنقلبت عليه وحاربته، تماماً مثلما فعلت مع القاعدة وداعش في منطقتنا الشرق أوسطية.

- كما إفتعلت الحرب الأهلية الأسبانية 1936 وورطت الدول الأوروبية فيها كذلك، لاستحكام العداء فيما بينها. كانت الحصيلة هيمنتها نقدياً واقتصادياً وعسكرياً على أوروبا ومن خلالها على العالم بعد أن استولت على إرث قارة العجوز الأوروبية الإستعماري.

- وها هي اليوم تعيد المشاهد نفسها، في استخدام "المقاول" الروسي في إجتياح أوكرانيا.. واضعاف الصين لاحقاً في اجتياح تايوان.. أو، أضعاف الصين من تداعيات ونتائج الحرب الروسية - الأوكرانية - الأوروبية.. بأدوات أوروبية غبية، ومقاولة روسية ملعونة، وجيوبولتيك أوكرانية ملعونة وغبية لم تتعلم دروس الماضي والحاضر وقراءة المستقبل.

- هذا ناهيك، عن حروب العرب العاربة والعرب المستعربة العبثية التى قدمت من دماء شعوبها ومستقبلهم خدمات مجانية إلى الولايات المتحدة الأمريكية مقابل بقائها وجلوسها مجاناً على صدور شعوبها إلى ما شاءت إحدى أكبر الإمبرياليات الراسخة في العصر الحديث. أو، إلى ان يتعلم الذئب القراءة.. ويتعلم الكتابة.. إلى ان يتعلم قراءة وكتابة اللغة الإنجليزية القديمة والجديدة والمستجدة.. إلى ان يتعلم الذئب الوضوء والصلاة والجزية على ديانة الرأسمالية الإمبريالية الأمريكية.. في حين "يعتقد" بعض أنصاف المثقفين والنخب العربية "الكورتيزونية" ان أجتماع "قمة النقب السداسية" خروج عن الطاعة الأمريكية!

أن ما يحدث مع الروبل الروسي كما كتب موقع “Investing” في 29 مارس 2022 يجعل من واقع الحرب الروسية الذي انسحبت تداعياتها على الأسواق كافة مجرد تصريحات جوفاء حيث لا يزال الروبل يسجل ارتفاعاته القوية مقابل الدولار سيد العملات كافة، بينما نجحت بورصة موسكو في تسجيل ارتفاعات قوية خلال هذه الأيام من التعاملات والعمليات العسكرية والمالية. وتأتي ارتفاعات الروبل قبل يومين من تفعيل قرار الرئيس بوتين بإلزام الدول الغير الصديقة لروسيا بالحصول على الغاز والنفط مقابل روبل العملة الوطنية الروسية.

هذه "إحدى" تقديمات "الدولة الكونية العميقة" الكبرى الراسخة على فاتورة حساب "المقاول الأكبر".. أو على فاتورة حساب "بطرس روسيا الأكبر" مقابل خدمات السياسة - العسكريتارية في إخضاع وإعادة القارة الأوروبية العجوز إلى بيت الطاعة الأميركية.. هذا بالإضافة إلى تداعيات وارتدادات إجتياح "الجغرافيا" الاوكرانية الجيو - ملعونة والجيو - غبية على إقتصاديات "الأرض" ذوو الألوان البنفسجية. الحرب، أو الحروب التي أصبحت كنموذج، أو أنموذج في حروب "الإمبريالية الاميريكية الراسخة" القادمة في أتجاه الهند الصينية نحو عقدة "تايوان" الصينية. أو، عقدة الصين التاريخية.. أو بمعنى أكثر دقة وموضوعية.. عقدة "الصين"، الامريكيه!

بعض من مقتطفات الرسالة التي وجهها المخرج المسرحي والأوبرالي الاميريكي بيتر سيلرز بمناسبة اليوم العالمي للمسرح في 27 مارس - آذار 2022 والتي تقول: لأن عالمنا اليوم معلقٌ بالساعة وبالدقيقة على موجز الأخبار اليومية وكأنه يتم تغذيتنا بالتنقيط، هل لي أن أدعونا جميعاً كمبدعين، للدخول في نطاقنا ومجالنا السليمَيْن ومنظورنا الخاص لهذا الزمن الملحمي والتغيير الملحمي والوعي الملحمي والانعكاس الملحمي والرؤية الملحمية؟ فنحن نعيش في فترة ملحمية من تاريخ البشرية، نتج عنها تغييرات عميقة في علاقات البشر مع أنفسهم ومع بعضهم البعض ومع العوالم غير البشرية، تغييراتٍ تكاد أن تتجاوز قدرتنا على الفهم والتعبير والتحدث عنها.

نحن لا نعيش في دائرة الأخبار على مدار الساعة، نحن نعيش على حافة الزمن، والصحف ووسائل الإعلام الغير مجهزة والغير قادرة على التعامل مع ما تمر به البشرية. أين هي اللغة، وما هي الحركات والصور التي قد تسمح لنا بفهم التحولات والتمزقات العميقة التي نمر بها؟ وكيف يمكننا أن ننقل مضمون حياتنا الآن ليس كريبورتاجٍ صحفي بل كتجربة؟

المسرح هو الشكل الفني للتجربة.. في عالمٍ تغمره الحملات الصحفية الواسعة وتجارب محاكاة الواقع والتكهنات المروعة، كيف يمكننا تجاوز التكرار اللانهائي للأرقام لنجرّب قدسية ولا محدودية حياةٍ واحدة، أو نظامٍ بيئيٍ واحد، أو صداقةٍ واحدة، أو جودة وجمال الضوء في سماءٍ غريبة؟ عامان من كوفيد-19 قد أضعف حواس الناس، وضيّق حياة الناس، وقطع العلاقات، ووضعنا في موضع نقطة الصفر الغريبة من حياة البشرية.

ما هي البذور التي يجب زراعتها وإعادة زراعتها في هذه السنوات، وما هي الأنواع الدخيلة والمتضخمة التي يجب إزالتها بشكل تامٍ ونهائي؟ هنالك الكثير من الناس ممن يعيشون على حافة الهاوية، ويشتعل الكثير من العنف بشكل غير منطقي وغير متوقع، وتم الكشف عن العديد من الأنظمة الراسخة على أنها هياكل للقسوة المستمرة.

أين ذهبت مراسم الذكرى التي نحتفي بها؟ وما الذي نحتاج تذكّره؟ وما هي الطقوس التي تسمح لنا أخيراً بإعادة التخيّل والبدء في التدرب على خطواتٍ لم نخطوها من قبل؟

إن مسرح الرؤية الملحمية والغرض الملحمي والتعافي الملحمي والإصلاح الملحمي والرعاية الملحمية يحتاج إلى طقوسٍ جديدة. لسنا بحاجة إلى الترفيه، بل إلى التجمع ومشاركة الفضاء الواحد، نحن بحاجة إلى إنشاء فضاءٍ مشترك ومساحاتٍ محمية للاستماع العميق والمساواة.

المسرح هو خلق تلك المساحة على الأرض التي يكون فيها الكل متساوياً، سواءً البشر أو الآلهة أو النباتات أو الحيوانات أو قطرات المطر أو الدموع أو عملية التجديد. إن فضاء المساواة والاستماع بعمق مضاءٌ بالجمال الخفي ويبقى نابضاً بالحياة من خلال التفاعل العميق للخطر ورباطة الجأش والحكمة والعمل الدؤوب والصبر.

نحن متيقنون جداً مما نراه والطريقة التي نراه بها لدرجة أننا غير قادرين على رؤية الواقع البديل والإمكانيات الجديدة والنهج المختلفة والعلاقات غير المرئية والصلات الخالدة والشعور بها. حان الوقت للانتعاش العميق لعقولنا، لحواسنا، لتخيلاتنا، لتاريخنا، ومستقبلنا. ولا يمكن القيام بهذا العمل من قبل أشخاصٍ معزولين يعملون بمفردهم، يتعيّن علينا القيام بهذا العمل معاً.. دائماً معاً!

محمود القيسي