هايد بارك

أيام عون الأخيرة .. "يا رايح كتّر القبايح‎" - خالد صالح

تم النشر في 7 آب 2022 | 00:00

كتب خالد صالح:

حسنًا فعلَ الرّئيس الشّهيد رفيق الحريري عندما أصرَّ على رفعِ عبارة "لو دامت ‏لغيركَ لما اتصلت إليك" على مدخلِ السّراي الحكومي الكبير بعد إعادة ترميمه على ‏صورته الحالية، وذلك تطبيقًا للآية الكريمة "وتلكَ الأيامُ نُداولها بَينَ النّاس" .. في ‏اقرارٍ علني أنّ على الحاكِم المسؤول أن يقتنعَ كليًا أن فترة وجودِه في موقعِ السّلطة ‏موقّت وغير دائم‎ ..‎

كانَ على الرّئيس الشهيد أن يرفعَ العبارة ذاتها على مدخلِ "القصر الجمهوري"، ‏وهو الذي أعادَ ترميمَه بعد وصولِه إلى سدّة رئاسة الحكومة أواخر العام 1992، وتمّ ‏افتتاحه بصورته الحالية في تموز 1993، ليستعيدَ مكانته في السّياسة اللبنانية حتى ‏باتَ الطريق إليه شاغلَ العقول وآسر الأحلام ومنبع السياسات والتطلعات ‏والطموحات‎ ..

تختصرُ عبارة "لو دامت لغيركَ لما اتصلت إليك" المشهدَ السياسيّ القائم في لبنان، ‏رَغم أنّها تناقض المثل الشعبي "يا رايح كتّر القبايح"، لأنّها ترسم مسارًا زمنيًا ‏محدودًا، بأنه لا أحدَ يضمنُ البقاءَ في موقعِه مهما بلغَ من مقاماتٍ ومهما علا من ‏شأن، لكنني كنت استغرب المثل الشعبي وأسأل نفسي : كيفَ يُمكنُ لمن يغادر موقعًا ‏أو مقامًا أو حتى منزلًا أو وظيفة ألا يترك شيئًا من الذكرياتِ الطيبة عنه ليتذكره ‏الآخرون بها؟‎.‎

اليوم ونحنُ في الأمتار الأخيرة من ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون، كنتُ أتمنى ‏أن أكتبَ عبارة "مع الحب" لو عَمِلَ خلال السّنوات الستة الماضية وفق المقولة ‏أعلاه، وأدرك يقينًا أنه مغادر، وأنه مفارق الموقع الذي جعله يتحكم برقاب العباد ‏والبلاد، لكن عبارة "مع الشفقة" هي الأكثرُ تعبيرًا عن واقعِ حالنا، والذي سيدونه ‏التاريخ كأبشعِ وأفظع مرحلة من تاريخ لبنان، لأن هذا الرجل قد ألحقَ الأذى بـ ‏‏"وطني" وعلى مرحلتين كما لم يفعلْ أحدٌ قبله، وربّما لن يأتي علينا مَن يفعلْ كما ‏فعله بعده‎ . ‎

من دونِ حقدٍ أو كراهية أشفقُ كثيرًا على "فخامة الرئيس القوي"، لأنه ظهرَ كـ"نمر ‏من ورق" ليس أكثر، حتى بات "ألعوبة" يُحركها "الصهرُ الأرعن" كيفمَا يشاء، ‏وكان ينقصُ تاريخَه العامر بالهزائم والتناقضات والانسحابات، التكتية منها وغير ‏التكتية، أن يصلَ لبنان في عهدِه إلى "جهنم"، وقد بلغه مقرونًا بعبارة "وبئس ‏المصير"، نعم أشفقُ عليه وقد بَلغَ "أرذل العمر" ودَمَغَ اسمَه بشتّى الأوصاف التي ‏ستلاحق ذكراه ردحًا طويلًا من الزمن‎ .‎

ليس فيما أقول ضراوةُ حاقدٍ بل هي الحقيقة المجرّدة من كلّ لُبسٍ، فقد بلغَ "الرئيس ‏عون" وفريقه السياسي برمتّه حدًّا غير مسبوق من الانفصام عن الواقع والغطرسة ‏المغلّفة بالغباء السياسي الفاقع، وَضَعَه في خانة "التملّق" من الشعب اللبناني بأكمله، ‏هذا الشعب الذي ناداه عون شخصيًّا ذات يوم "يا شعب لبنان العظيم" بلغَ في عهده ‏الدّركَ الأسفل من كلّ شيء، وشَهِد على أيامِه كلّ ضروب الذّلّ والهَوان، حتى باتَ ‏يحسِبُ نهاية عهدِه بالسّاعات‎ .‎

ولأن الشيء بالشيء يذكر وبالنظر لما نشهده في هذا العهد "المندثر قريبًا"، تذكّرتُ ‏تلك "الطُرفة" التي تناقلها الإسبان عن جنرالهم "فرانكو" عندمَا كانَ يرقد على ‏فراش الموت سَمِعَ ضجّة وجلبة خارج قصره. فسأل زوجته التي كانت قد بقيت إلى ‏جانبه : ما هذه الضجّة؟، أجابت : إنه الشّعبُ الإسباني جاءَ لوداعك !! لوداعي ؟، ‏إلى أين هو ذاهب ؟‎!!‎

لقد كان فرانكو، كما نعرفُه ونعرفُ صفاته ومزاياه يُشبه كثيرًا "رئيسنا القوي جدًا"، ‏كان من ذلك النمط من الطغاة الذين يعتقدون أن الله خلقهم ليحكموا، فإذا رفضهم ‏الناس، فإن على الناس أن يذهبوا .. إما إلى المعتقلات والسجون أو إلى الجحيم، ‏أليس "جنرالنا الميمون" من أدخل المصطلح العظيم "جهنم" إلى حياتنا بكل تفاصيلها ‏؟‎.‎

وصل هذا العهد للخاتمة وأشرف على الغياب، وها هو قطار "الآلام" الذي فرَضه ‏عون و"فريقه الانتهازي" على اللبنانيين وأرغموهم بأنانيتهم المفرطة على أن ‏يستقلّوه قد بلغَ "محطته الأخيرة"، بعدما بلغوا معه حدودَ المأساة ولم يعدْ ينفعه ‏ممارسة أساليب التحايل والكذب، المأساة الإنسانية الكبرى التي دفعت كل اللبنانيين ‏إلى ابتكار لغاتٍ جديدة للسخرية من هذا العهد ومن سقطاتِه الفاضحة بدءًا من "فجر ‏القرود" وانتهاءًا بـ "هدراهيروقسمهريكم" من دون نسيان "جهنم" و "هاجروا" و ‏‏"ما بيوصلوا لتحت زناري" .. السخرية من البنى الفكرية والسياسية التي أرغمتهم ‏على التعايش معها بالإكراه‎ ..‎

أصبحنا كـ "شعب" ضاقَ ذرعًا من الغوغائية التي صبغت هذا العهد، نّمقُتُ طفيلياته ‏وأساليبَ تحايله للهربِ من مسؤولياته عمّا أصابنا من جوعٍ وفقرٍ واهتراءٍ في كلّ ما ‏يمتُّ بصلةٍ للحياة، وأصابتنا الكراهية لكلّ أنواعِ المضاربة بحياةِ الناس من الكهرباء ‏إلى لقمة العيش، حتى باتت رحلة البحث عن قوتنا اليومي كرحلة البحث عن القارة ‏المفقودة، وباتِ تواجد "عون وفريقه الاستشاري المفتن" في "قصر الشعب" مصدرٌ ‏لليأس والاكتئاب، وارتفعت معدّلات السّخرية لدى الناس، لأنها الوسيلة الوحيدة ‏للسخرية من واقعٍ مؤلم عاشه وفق مقولة "مكرهٌ أخاكَ لا بطل‎" .. ‎

أيامُ "شاغل" قصر بعبدا المعدودات ومعه تلك المجموعة الباغية لم يعدْ ينفعْ معَها ‏التأويلُ والتفسيرُ، وما يفعله هذا الفريق ليس سوى الاستمرار في طبعِ أيامنا الثقيلة ‏به، بـ "القبائح" التي ارتكبها بحقنا كـ "وطن" و "مواطنين"، وما أتحفنا به من فنون ‏التراجيديا والدراما والمهاترات، وما أدخله علينا من أدبياتٍ ساخرة فارغة كـ ‏‏"العهد"، الذي ستدور الدوائر عليه، والذي نستعدُّ لنهايته بشراءِ "جرار الفخار‎" ..‎