روى أحد الاصدقاء المقربين من الرئيس الشهيد رفيق الحريري انه وأثناء مرافقته الى البرازيل (كانت انذاك المناكفات على أشدها مع الرئيس السابق اميل لحود والوزراء المشاكسين) سأله في احدى الجلسات الخاصة: "دولة الرئيس لماذا تعرض المشروع وتتراجع عنه وتتنازل كلما حصلت الاعتراضات، وانت تعلم ان المشروع ملحّ وضروري لمصلحة الاقتصاد ومصالح الناس وخلق فرص العمل ... أجاب بواجدانية كاملة وهو متأثر جداً من طرح السؤال طالباً عدم النشر: اذا انا تمسكت بموقفي وهم تمسكوا بموقفهم ماذا يحصل؟. قلت: تتوقف المشاريع. قال: كلا بل يتوقف البلد، وهذا ما يريدون بدليل تعطيل قرارات مؤتمر باريس ـ 2 وغيرها من المشاريع التي سبق ووافقوا عليها باسم الدولة".
كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري يريد الانجاز وهذا ما دفعه الى تخطي كل العقبات والعراقيل التي كانت تُحاك له من أجل تعطيل مسيرة النهوض في بلد دُمرت أوصاله وكَبُر دينه العام وتفاقم عجز ميزانيته، الا انه ورغم ذلك، كانت سياسة النكايات والتعطيل تصل الى حد استعمال مصالح الناس ووقف المشاريع الكبرى في وسط بيروت، بهدف حصر مسؤولية التردي الاقتصادي بشخص رفيق الحريري، على سبيل المثال لا الحصر قضية تراكم الدين العام وتراجع النمو رغم أن آلية الاستدانة كانت تحصل بمشاريع قوانين في الموازنة وخارجها، تقرها الحكومة (التي لم تكن يوماً كلها للرئيس الشهيد رفيق الحريري)، وكذلك يقرها مجلس النواب ويصدقها رئيس الجمهورية.
لقد كانت اولويات الرئيس الشهيد اعادة إعمار ما دمرته الحرب، خصوصاً مدينة بيروت الأحب الى قلبه، فكان مشروع اعادة اعمار الوسط التجاري الذي بدأه عام 1994 وهو الاقرب الى قلبه، لأنه كان مقتنعاً بأن تأسيس قلب العاصمة انما هو إعادة تأسيس قلوب اللبنانيين على الادارة المشتركة والمستقبلية.
لقد أتى الرئيس الشهيد رفيق الحريري الى الحكم في مرحلة صعبة جداً بعد حرب أهلية دامية عاشها لبنان طيلة سبعة عشر عاماً، وكانت البلاد تمر بحالة صعبة على الصعيدين المالي والاقتصادي، وشارفت على الانهيار النقدي بحيث وصل سعر صرف الدولار الى 2400 ليرة، وهو اعلى سعر لامسه إزاء العملة الوطنية، وكانت حالة عدم الاستقرارين المالي والسياسي تتحكم بالتقلبات الحادة لسعر الصرف وسط غياب الحد الادنى من الضوابط. وترافق تكليف الرئيس رفيق الحريري رئاسة الحكومة موجة من التفاؤل عام 1992، أدت الى انقلاب الطلب على الدولار الى عروض، بحيث بدأ إحتياطي مصرف لبنان يتعزز بعدما طرح اللبنانيون في السوق اكثر من مليار دولار خلال أقل من شهر واحد، باعتبار ان مجيء الرئيس الحريري بالنسبة الى غالبية اللبنانيين والاقتصاديين سيؤمن الحل لكل الازمات التي كانت موجودة في تلك الفترة. وبالفعل بدأت سياسة تثبيت سعر الصرف التدريجي منذ العام 1992 حتى آخر حكومة للرئيس الشهيد الى يومنا هذا.
لعل أهم ما إكتسبه لبنان مع مجيء الرئيس الشهيد رفيق الحريري الى الحكم هو عامل الثقة بعد ان كان قد فقدها لبنان جراء الحرب، الا ان وجوده في الحياة السياسية والاقتصادية أعطى للبنان مكانة عالية بين جميع الدول ما أدى الى تدفق الاستثمارات العربية والأجنبية وانتعاش الاقتصاد.
على الرغم من الاهتمام بورشة الاعمار التي كانت الاضخم في المنطقة من وسط بيروت الى البنى التحتية، فان الجدل السياسي طوال عهد الحكومات الست للرئيس الشهيد لم يتوقف مع كل طرح أو مناقشة لمشروع كان يراه مناسباً بينما كان ينظر اليه البعض على انه ليس من الاولويات لهذه المرحلة، إلا انه كان غالباً ما يتخطى المناكفات والعراقيل اما بالتأجيل اوالمراضاة لكثيرين كانوا يحترفون الابتزاز السياسي لتحصيل منافع خاصة، وهم كثر في الحياة السياسية اللبنانية. من هنا، كانت مصادر الهدر في بعض القضايا والمشاريع، باعتبار ان المحاصصة كانت تفرض نفسها احياناً على الرئيس الحريري الذي لم ينجح في تخطي هذه العقبات في معظم حكوماته، لا سيما خلال عهد الرئيس اميل لحود، حيث كان الهجوم عليه وليس على مضامين المشاريع التي يطرحها، الامر الذي عطل الكثير من محاولات الاصلاحات المالية والاقتصادية وتشريعات تشجيع الاستثمارات الخارجية.
لم يعرف لبنان رجلاً كرفيق الحريري، كان يُتابع المشاريع الانمائية والاعمارية بنفسه ويشرف عليها وكان يعتبر ان كل المشاريع هي مشاريعه، وهو المسؤول عنها لذلك نجح ونجحت تلك المشاريع في الوقت الذي كان فيه حاكم دبي، ورئيس مجلس وزراء دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن راشد يبني دبي وعيونه على ألا يسبقه رفيق الحريري إلى الإنجاز.
إذا نظرنا الى الانجازات التي حققها الرئيس الشهيد رفيق الحريري واحتسبنا عامل الوقت نرى عظمتها، اذ استطاع ذاك الرجل في أقل من عشر سنوات إعادة اعمار الوطن بكامله وترك فصلاً في سجل التاريخ اسمه "زمن رفيق الحريري".
وهنا يحضرني قول الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك خلال مؤتمر باريس ـ 3، وهو يعلن نتائج المساهمات "ان من قتل رفيق الحريري كان يعرف ماذا قتل ومن قتل في لبنان ".