الواحدة إلا خمس دقائق بعد 14 عاما، السان جورج منطقة موت وحياة على خطوط تماس الذاكرة التي تعيد تدوير الذكرى بكثير من التفاصيل التي كانت غائبة. كأن تبتلع الحفرة القتلة، تحيلهم أشباحاً يجولون على أنقاض الخراب، يسعون الى تبديل المعالم، التفاصيل، الوجوه ، المخططات، وربما وجه البلد، ثم أنها تلفظهم نكرة في التاريخ الذي لا ينتصر الا لرجاله من الذين يصنعون التاريخ، المحطات، الامكنة، الاحداث.
هناك على تخوم الموج الازرق، وذلك السياج الفاصل بين المدينة والسفن المغادرة، كل أرض محروقة تجدد في طبقاتها من عام الى عام، ومن أسود الى ترابي الى خضرة تفترش حديقة الرئيس الشهيد رفيق الحريري على مساحة 1200 متر، حيث تضاء الشعلة ويتوهج تمثال الشهيد وترتفع أصوات الآذان في تلاقيها مع قرع أجراس الكنائس ، وحيث لا يمكن للمارة من العبور من دون أن يحضر المشهد من ألف الدوي الى ياء الانتفاضة على الظلم والقتل والعدالة الهاربة إنما الى أجل وحين.
الواحدة الا خمس دقائق بعد 14 غياباً، تتبدل وجهات السير ووجوه المارة وأسماء المتاجر والابنية والشوارع، ويبقى الرئيس الشهيد الحاضر الابرز في منطقة السان جورج، مسلسلا الاحداث من الدمار الذي حل بالمكان إلى الشهداء الذين تقاطروا منذ هبت رياح انتفاضة الاستقلال الثاني الى عودة الروح للمدينة الثكلى بالعابرين الى العبور نحو السيادة ومحاولات رتق ما تمزق من معالم الدولة الى سيادة الفراغ ومن ثم الشروع في نفق طويل من جلسات الحوار وصولا الى مساعي التوافق والوفاق الثابتين على وصية :"ما حدا أكبر من بلدو".
ولأن الوصية مرسال سلام وأمان واستقرار في بلد تكثر فيه محاولات إطفاء محركاته وطمس "الحقيقة" والتعالي على "زمن العدالة" والجنوح نحو التفرد بالحكم والرأي والقرارات، يصعب عبور خط السير البحري ذاك من دون استحضار نحو عقد ونصف من عمر البلد ، ومن دون اضاءة شمعة في الذاكرة التي لن تنسى رفيقا لآخر العمر..