كشفت العملية التي شنتها ايران مستهدفة النفط السعودي وشركة "أرامكو" بالذات ان "الجمهورية الإسلامية" اعتمدت خط التصعيد ردّا على العقوبات الاميركية التي تستهدفها. كشفت هذه العملية، في الوقت ذاته، إدارة دونالد ترامب. تبدو الإدارة الاميركية في حيرة من امرها في غياب خيارات أخرى غير متابعة فرض العقوبات وعرض حوار من دون شروط مسبقة على طهران.
ردت ايران على خيار الحوار من دون شروط مسبقة بعمل اقلّ ما يمكن ان يوصف به انّه اعلان حرب. نعم، انّه اعلان حرب بكل معنى الكلمة نظرا الى انّه يهدد "امدادات البترول العالمية وامنها، بما يشكل تهديدا للاقتصاد العالمي". هناك اعتراف بذلك من وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان الذي لم تنقصه الجرأة في الكلام عن الامور كما هي واصفا ما حدث بدقة وشفافية.
من الواضح ان ايران تشعر بالاختناق وتعتبر انّها تتعرّض لحرب وصفها احد ديبلوماسييها في بيروت بـ"الموت البطيء"، مشددا على انّها "لن تقف مكتوفة امام هذا الموت البطيء وهذه الحرب".
اذا، اتخذت ايران قرارها. ما أقدمت عليه ردّا على العقوبات الاميركية يعتبر اشدّ خطورة من اغلاق مضيق هرمز الذي اكتشفت ايران انّه يصعب عليها اغلاقه... في حين من الاسهل ضرب اهداف حيوية في منطقة الخليج العربي. اليوم معامل لشركة "أرامكو". غدا، قد يكون هناك استهداف لمصانع تحلية المياه. باختصار، تمتحن ايران القدرة الاميركية على الصمود والردّ في وقت تعرف جيدا ان دونالد ترامب يخشى الدخول في أي حرب، خوفا من ان يؤثر ذلك على فرص العودة الى البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية التي موعدها في تشرين الثاني – نوفمبر 2020.
الى أي مدى ستذهب ايران في ما تعتبره ردّا على الحرب الاميركية؟ الظاهر انّها ستذهب بعيدا في ظلّ إدارة أميركية قررت استبعاد الردّ العسكري ما دام الهدف دول الخليج العربي وليس الجنود الاميركيين والقواعد الاميركية في المنطقة.
تبيّن انّ "الجمهورية الإسلامية" تعيش في أجواء التصعيد في غياب إدارة أميركية قادرة على ردعها. تعرف تماما ان في استطاعتها تجاوز الكثير من الخطوط الحمر باستثناء قتل جنود اميركيين. كان اسقاط الطائرة المسيرة الاميركية فوق مضيق هرمز في حزيران – يونيو الماضي خير دليل على ذلك. في اللحظة الأخيرة، تراجع ترامب عن الردّ العسكري وتصرّف على طريقة باراك أوباما. تذرّع الرئيس الاميركي بان الردّ كان سيؤدي الى سقوط ضحايا إيرانية كثيرة، في حين اقتصرت الخسائر الاميركية على طائرة مسيّرة لا يتجاوز ثمنها 150 مليون دولار!!!
بات على دول الخليج العربي في ضوء المعطيات الراهنة، التي تتمثل بتصعيد إيراني تجاهها وتجاهل أميركي لهذا التصعيد، البحث عن استراتيجية جديدة تستند الى معطيات خاصة بالوضع القائم. في مقدّم هذه المعطيات ان ايران، العاجزة عن الدخول في مواجهة مباشرة مع اميركا، لجأت الى الردّ في الخليج نفسه وفي العراق وسوريا ولبنان واليمن. من المهمّ ملاحظة انّ الضغوط الايرانية في العراق زادت أخيرا في غياب سلطة عراقية فعلية. كان ابرز ما كشفته هذه الضغوط استيعاب طهران لمقتدى الصدر مجددا وظهوره في مجلس "المرشد" الايراني علي خامنئي، لدى احياء ذكرى عاشوراء، جالسا الى جانب الجنرال قاسم سليماني.
لم يعد سرّا ان الميليشيات المذهبية التابعة لإيران والتي تعمل بكلّ حرّية في العراق تحت تسمية "الحشد الشعبي" وضعت الأراضي العراقية في تصرّف "الجمهورية الإسلامية"، فيما الولايات المتحدة تتفرّج... اقلّه الى الآن. هل يفاجئ دونالد ترامب حلفاءه الخليجيين فيثبت انّه مختلف عن باراك أوباما وان ازاحته لمستشاره لشؤون الامن القومي جون بولتون لن يكون له تأثير يذكر على المواجهة مع ايران؟
لن يعود مستغربا بعد اليوم، في حال لم تتخذ اميركا اجراءت من نوع مختلف ردّا على مهاجمة المنشآت النفطية السعودية ان يكون هناك لجوء الى سياسة خليجية مستقلة عن السياسة الاميركية الى حد كبير. ستشبه هذه السياسة تلك التي اتبعت في عهد باراك أوباما الذي لم يكن يرى مشكلة في استيلاء الاخوان المسلمين على مصر اثر انتخاب محمد مرسي رئيسا للجمهورية في ظروف اقلّ ما يمكن ان توصف به انّها مريبة.
تحرّكت دول خليجية عدّة، في مقدمها السعودية والامارات من اجل انقاذ ما يمكن إنقاذه ودعم الانتفاضة الشعبية التي ادّت الى تخلّص مصر من حكم الاخوان المسلمين الذي سمح بتغلغل إيراني في عمق البلد. ليس سرّا ان مجموعة من الدول العربية تحرّكت بطريقة مستقلّة ودعمت خيار الشعب المصري منتصف العام 2013.
عندما تتردّد الولايات المتحدة، بسبب حسابات خاصة بها التعاطي، في اللجوء الى الحزم مع ايران، سيحمل ذلك دولا عدةّ في منطقة الخليج الى إعادة النظر في مواقفها وسياستها في وقت تسعى ايران الى دق اسفين بين هذه الدولة العربية وتلك. في النهاية ان دول الخليج العربي كلّها في مركب واحد ويفترض بها ادراك ان اللعبة الايرانية المتمثلة في التركيز على السعودية وحدها، هذه الايّام، لن تمرّ على احد.
هناك بكل بساطة وضع مختلف في المنطقة، خصوصا في الخليج. تستطيع اميركا الاكتفاء بسياسة تشديد العقوبات على ايران. لكن ليس في استطاعة دول الخليج الاكتفاء بالتفرّج على ردود الفعل الايرانية التي تستهدفها، خصوصا انّ ليس ما يشير الى انّ "الجمهورية الإسلامية" مستعدة لالتزام حدود معيّنة، نظرا الى انّها تعتبر العقوبات الاميركية مسألة حياة او موت بالنسبة اليها.
لم تعد امدادات النفط مسألة حياة او موت بالنسبة الى الولايات المتحدة التي أصبحت في وضع القادر عن الاستغناء، ضمن حدود معيّنة، عن نفط الخليج. ولكن ماذا عن بقية دول العالم، بما في ذلك الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية والدول الاوروبية باستثناء بريطانيا ونروج؟ ما الذي ستفعله إدارة ترامب في حال مارست هذه الدول ضغوطا عليها كي تخفف العقوبات على ايران، خصوصا العقوبات على تصدير النفط، وذلك كي تخفف ايران بدورها من التصعيد في منطقة الخليج؟
تدخل المنطقة ومعها العالم مرحلة جديدة في ظلّ حال من التخبط الاميركي في أساسها رغبة دونالد ترامب في العودة الى البيت الأبيض باي ثمن... حتّى لو كان هذا الثمن مصافحة الرئيس الايراني حسن روحاني والتقاط صورة تذكارية معه. هناك ثمن يبدو المقيم في البيت الأبيض مستعدا لدفعه، فيما لا احد في المنطقة العربية على استعداد لتحمّل النتائج المترتبة على دفع اميركا لهذا الثمن.