هايد بارك

في ذكرى ياسر عرفات: "ماذا تبقى من  البندقية وغصن الزيتون"؟! -محمود القيسي

تم النشر في 13 تشرين الثاني 2023 | 00:00

 كتب محمود القيسي:

عبثاً تحاول… مُلكاً ومملكة ً

فَسرْ للجُلْجُلَهْ…

ماذا تريد وأنت سَيِّدُ روحنا

يا سَيِّدَ الكينونة المتحوِّلَهْ؟

يا سَيِّدَ الجمرهْ يا سَيِّدَ الشعلهْ..

ما أوسع الثوره.. ما أضيقَ الرحلهْ..

ما أكبرَ الفكرهْ..ما أصغرَ الدولهْ!

*محمود درويش

 

في مثل هذه الأيام من العام ٢٠٠٤، استشهد الرمز والقائد الفلسطيني ياسر عرفات، أو أبو عمار، أو الختيار.. لا يهم، كل هذه الاسماء الخالدة تأخذنا إلى مكان وأحد.. تأخذنا إلى فلسطين.. حيفا ويافا والقدس والجليل.. إلى رام الله وبيت ساحور والناصرة.. إلى بيت لحم وغزة العزة والنقب.. إلى وجه بيسان، وكل حقول البرتقال والزيتون.. إلى فلسطين كل فلسطين.. بلاد الانبياء والفدائيين.. مسرى الرسول.. ميلاد السيد المسيح.. كان الشهيد ياسر عرفات الفصل الاطول في حياتنا… كان أسم أبو عمار احد أسماء فلسطين الجديدة الناهضة من رماد النكبة الى جمرة المقاومة إلى فكرة الدولة… وفي كل واحدٍ منا شيءٍ منه.

 

في مطلع الألفية الثانية قامت في إسرائيل مظاهرات غاضبة (ليست ضد ياسر عرفات) وليست ضد الشعب الفلسطيني بل ضد الديناصورات.. نعم، ضد كل أنواع الديناصورات عبر العصور.. وحدثت هذه التظاهرات الحاشدة أمام مصنع للألبان الصق صور بعض الديناصورات الملونة.. الزاحفة منها.. والطائرة على عُلب حليب الأطفال. اما سر هذا العداء (الذي يشمل كل ما هو أحفوري متحجر) فيعود إلى أعتقاد اليهود إن الأرض خُلقت قبل 4762 عاماً في حين يقول العلماء إن الديناصورات انقرضت قبل أكثر من 60 مليون عام.. وتصديق الإدعاء الأخير يشكل طعنًا مباشرًا في حقيقة توراتية مهمة!!

 

ما حصل في إسرائيل مجرد مثال على التعارض بين المفهوم الديني والجيولوجي فيما يخص العمر الحقيقي للأرض؛ ففي حين يؤكد علماء الجيولوجيا ان عمر الأرض لا يقل عن, 45 بليون عام تملك أغلب الاديان فكرة محددة عن (كيف ومتى) خُلقت الأرض وتحدد لها عمرًا لا يتجاوز "بضعة آلاف سنة"! وكان اللورد كالفن أول من تجرأ (في العقد الأخير من القرن التاسع عشر) على معارضة التيار الديني وأكد استحالة تشكل الأرض خلال عمر قصير. وقدم حينها استنباطًا علميًا رائعًا يعتمد على وجود احافير عتيقة وان حجم القشرة الخارجية للأرض فقط يتطلب 400 مليون عام حتى يتصلب يا بني صهيون.

 

لم يعش عرفات سن المراهقه والشباب ولم يكترث به، بل كانت معظم اهتماماته في تلك الفترة المهمة التعرف على المطرودين من فلسطين، وأصبح من خلال هذا الاهتمامات مقربًا من أوساط المفتي أمين الحسيني، وفيصل الحسيني أبن عبد القادر الحسيني قائد جيش الجهاد المقدسي في فلسطين والذي إستشهد مدافعًا عنها في معركة القسطل عام 1948. في أثناء حرب 1948 ترك عرفات الجامعة، وذهب إلى فلسطين مع غيره من العرب وسعى للانضمام إلى الجيوش العربية المحاربة لإسرائيل.. تم انتخابه رئيسًا لاتحاد الطلاب الفلسطينيين في القاهرة من عام 1952 لعام 1956. تعرف على صلاح خلف العضو في الأخوان المسلمين المعروف باسمه الحركي (أبو إياد). وفي السنة الأولى من رئاسته أيضًا، قامت حركة الضباط الأحرار بالإطاحة بالملك فاروق الأول، وفي تلك الفترة تعرف على فاروق القدومي الناشط في حزب البعث.

 

كان قبول رئيس الضباط الأحرار جمال عبد الناصر بقرار الأمم المتحدة بوضع قوات طوارئ دولية في سيناء، وقطاع غزة في عام 1956 نتيجة للعدوان الثلاثي على مصر، سببًا لابتعاد جميع المحاربين (غير النظامين). سافر بعدها إلى الكويت وبدأ عرفات بتشكيل مجموعات من أصدقائه الذين لجأوا إلى الكويت قادمين من غزة، وتطورت تلك المجموعات حتى كوَّنت حركة "فتح" في عام 1959. عمل عرفات على دعم الأغنياء الفلسطينين في دول الخليج. وفي عام 1961، تعرف على محمود عباس، أبو مازن في قطر. وقد مكّن تواصل عرفات مع رجال الأعمال والعاملين في صناعة النفط في حثهم على مساعدة حركة فتح. وفي هذه الأثناء أُنشئت منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة أحمد الشقيري في عام 1964.

 

لم تكن منظمة التحرير الفلسطينية في تلك الحقبة التاريخية مستقلة عن سيطرة التجاذبات العربية الرسمية بل خاضعة للإملاءات العربية وصراعاتها التي لا تتوقف عند حد، وتم سجن عرفات مع بعض قيادات فتح في سوريا. وفي عام 1963، أعترفت الدول العربية بمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، وأعتبر مجلس جامعة الدول العربية أن رئيس المنظمة ممثِلًا لفلسطين لدى الجامعة. وفي مؤتمر قمة القاهرة لعام 1964، شرّعت جامعة الدول العربية في إنشاء منظمةٍ تُمثل الشعب الفلسطيني. فقد عُقِدَت أولُ جلسةٍ للمجلس الوطني الفلسطيني في (القدس الشرقية) في التاسع والعشرين من مايو لعام 1964. وقد تم تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية خلال هذا الاجتماع في يوم 2 يونيو، 1964.

 

في 1 يناير 1965 بدأت العمليات المسلحة لحركة فتح، حيث تمت محاولة تفجير نفق عيلبون. وفي 5 يونيو 1967، كانت بداية حرب الأيام الستة حيث قامت القوات الإسرائيلية بمهاجمة القوات الجوية المصرية. وكانت نتيجة الحرب هزيمة الجيوش العربية واحتلال الجيش الإسرائيلي للعديد من المناطق العربية مثل قطاع غزة، والضفة الغربية. وعلى الرغم من هزيمة عبد الناصر وحلفائه العرب إلا أن تلك الهزيمة كانت تُعتبر بمثابة النصر لحركة فتح وعرفات شخصيًا، لإنه فُهم من ذلك اليوم أن الحكومات العربية لا تستطيع أن تكون بجانب فلسطين قبل حل مشاكلها. وبعد أسبوعٍ  واحد فقط عبر ياسر عرفات نهر الأردن، وتنكر ليدخل الضفة الغربية، وأنشأ مراكز في الخليل، والقدس، ونابلس للبحث عن أنصار للحركة.

 

أستطاع عرفات من غزل علاقة مميزة في تلك الحقبة الدقيقة من مستقبل منظمة التحرير الفلسطينية مع محمد حسنين هيكل "مستشار" الزعيم المصري عبد الناصر الإعلامي، وأُعلن أن ياسر عرفات هو الزعيم الفلسطيني من قبل جمال عبد الناصر. وقد قدّم أحمد الشقيري استقالته من رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية في شهر ديسمبر. بعد أن اختلف مع القادة العرب خلال أنعقاد مؤتمر (اللاءات الثلاثة) في الخرطوم محملًا إياهم المسؤولية عن ضياع ما تبقى من فلسطين وأتى خلفه يحيى حمودة كثاني رئيس للمنظمة، وطلب من ياسر عرفات الانضمام إلى المنظمة أشارة لسياسة وضع اليد.

 

بدأت حركة فتح بتأسيس قواعدها على خطوط التماس المواجهة للضفة الغربية بموافقة الأردن، فأقامت معسكرات تدريب ومقر قيادة في قرية الكرامة في منطقة غور الأردن. وبعد الهزيمة التي مُنيت بها الجيوش العربية في عام 1967، في الضفة الغربية للرد على الهجمات الصاروخية التي تقوم بها إسرائيل. وفي ليلة 21 مارس عام 1968، كانت معركة الكرامة قفزة كبيرة بالنسبة للجميع على صعيد المقاومة، وتمهيدًا لمحو عار هزيمة 1967، وكان عرفات في ساحة المعركة ولكن لم يتأكد من مشاركته الشخصية في القتال في حين غادر معظم قادة الفصائل الأخرى قبل معركة الكرامة إلى خارج المنطقة.

 

بدا الإعلام الغربي – الأمريكي على وجه الخصوص ومعظم المجلات والصحف الأمريكية والأوروبية متابعة تفاصيل المصادمات الفلسطينية – الإسرائيلية بدقة متناهية، وعن كثب، وكانت صورة عرفات على غلاف التايم الأميركية العدد الصادر من المجلة بتاريخ 13 ديسمبر لعام 1963 مصار إعجاب وغضب البعض. كانت هذه أول مرة يتعرف فيها العالم على الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بطريقة رسمية. وكانت فترة ما بعد الحرب نقطة تحول مهمة، حيث ظهرت حركة فتح وعرفات إلى الساحة التاريخة بشكل أوسع. وبدأ يُنظر إلى كل من يجرؤ على الوقوف ضد إسرائيل على أنه بطل قومي. وقد زاد الدعم المادي القادم من العرب بشكل ملحوظ في تلك الفترة، وكان سببًا مباشرًا في تطور سلاح وذخيرة حركة فتح. وأرتفع عدد المطالبين بالانضمام إلى الحركة في تلك الفترة إلى الآلاف من الفلسطينين والعرب.

 

وفي 3 فبراير عام 1969، تولى ياسر عرفات رئاسة المجلس التنفيذي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وذلك باجتماع المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في القاهرة، وذلك خلفًا ليحيى حمودة الرئيس السابق للمنظمة. وأصبح بذلك القائد الأعلى لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت تضم عدة تنظيمات فلسطينية، واستمر بتولي هذا المنصب حتى وفاته. وبعد سنتين أصبح ياسر عرفات القائد العام للثورة الفلسطينية. ثم أصبح بعد ذلك رئيس الذراع السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية في عام 1973. أصبح ياسر عرفات سياسيًا معروفًا على مستوى العالم في نهاية الستينات وبداية السبعينات. سيما بعد أن أجرت معه مجلة التايم سلسلة من اللقاءات الصحفية إثر معركة الكرامة.

 

كان الخامس عشر من سبتمبر 1970 عام الطلاق والحرب مع الاردن وتاريخ أول صراع عربي فلسطيني مسلح اسفرا عن آلاف القتلى والجرحى، حيث قامت منظمة التحرير بخطف 5 طائرات، وتفجير ثلاثة منها في عمان، وفي مؤتمر القاهرة في 21 سبتمبر من عام 1970. حصل عرفات على تعاطف القادة العرب المشاركين في المؤتمر. لم ينجح الجانبان في التوصل إلى إتفاق سلام. وتوفي جمال عبد الناصر بعد القمة بساعات نتيجة أزمة قلبية حادة. وبعد محاولة اغتيال فاشلة لملك الأردن بدأ الجيش الأردني عملياته ضد التنظيمات الفلسطينية. وفي 25 سبتمبر، أكتسب الجيش الأردني اليد العليا، وبعد يوم توصل الملك حسين مع عرفات إلى وقف لإطلاق بعد خسائر فادحة في صفوف الفلسطينيين. وهو ما يعرف بإسم أحداث أيلول الأسود. وفي عام 1971 قُتل القائد الفلسطيني أبو علي إياد، فانتقلت التنظيمات الفلسطينية إلى لبنان.

 

مع ضعف الحكومة المركزية في لبنان، كان بإمكان منظمة التحرير الفلسطينية، أن تنشئ دولة مستقلة في لبنان. وفي عام 1974 وبعد عدة عمليات متبادلة بين الفلسطينيين والعدو واهمها قيام منظمة أيلول الأسود في 1972 باختطاف فريق إسرائيلي مشارك في دورة الألعاب الأولمبية في ميونخ في ألمانيا، اعتمد عرفات برنامجا من قبل المجلس الوطني الفلسطيني. وأقترح الوصول إلى تسوية مع الإسرائيلين. وفقًا لتلك التسوية تحصل منظمة التحرير الفلسطينية على قطاع غزة والضفة الغربية من إسرائيل بعد أن احتلتهم في حرب 67 لتؤسس الدولة الفلسطينية عليهما. والتي كانت سببًا في انفصال بعض المنظمات عن منظمة التحرير الفلسطينية. وتأسست جبهة الرفض الفلسطينية.

 

(في مؤتمر القمة العربي السابع، في الرباط في المغرب، أُعلن أن منظمة التحرير الفلسطينية "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني"، وتم قبولها كعضوٍ كامل الصلاحية في جامعة الدول العربية. وفي عام 1974، ألقى عرفات خطبة في الأمم المتحدة كأول شخص في منظمة غير رسمية يقوم بذلك. وتوجه بخطاب شهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وندد في كلمته بالصهيونية، وقال أشهر عبارته الرمزية الموجهة لإسرائيل إن البندقية في يدي وغصن الزيتون في اليد الأخرى، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي، وكسب خطاب عرفات التعاطف مع القضية الفلسطينية على الساحة الدولية).

 

كان لبنان في تلك المرحلة من الغليان واحتدام  الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يعيش على صفيح صراعات سياسية لبنانية – لبنانية ساخنة بين يمين ويسار.. وصراعات لبنانية – فلسطينية سرعان ما اندلعت حرب أهلية لبنانية طاحنة، وعلى الرغم من محاولات عرفات مع بعض الزعامات الفلسطينية استيعاب ما حدث في الأردن والتركيز على المقاومة إلا أن دخول المقاومة لدوامة الحرب والعنف كان أمرًا من الصعب تجنبه في ظل حالة الاستقطاب التي كانت سائدة بين اليسار واليمين اللبناني، لكن اللافت أكثر في الحقبة اللبنانية هي حدوث تحول في مواقفه والمنظمة من دمج العمل المقاوم مع النشاط السياسي، ففي عام 1974 تم قبول خطة المراحل والتي لم تتخلَ ظاهريًا عن الهدف المعلن وهو القضاء على دولة إسرائيل بل أعلنت أن المنظمة مستعدة لإقامة دولة فلسطينية على أية أراض فلسطينية يتم تحريرها.

 

وعندما أبرم أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد عارض عرفات هذه الاتفاقية والتي كانت تحتوي بنود تعطي الشعب الفلسطيني الحق في إقامة حكم ذاتي داخل الأراضي الفلسطينية، ولهذا سارعت إسرائيل بإرسال قواتها لاجتياح جنوب لبنان إثر عملية فلسطينية مسلحة على الطريق الساحلي داخل إسرائيل. هذه العملية سماها الإسرائيليون عملية الليطاني، وبطلب من لبنان تدخلت الأمم المتحدة وأرسلت قوات اليونيفيل للانتشار جنوب النهر، وبعد ذلك أكملت إسرائيل انسحابها من لبنان، لكن الحرب والعمليات العسكرية أستمرت في تلك المنطقة لتصل إلى الذروة.

 

وفي 6 يونيو 1982 بدأت القوات الإسرائيلية هجومها بقصف مُركّز، وفي 9 يونيو 1982 وصلت القوات الإسرائيلية إلى مشارف بيروت وقامت بتطويق بيروت الغربية بما في ذلك القيادة الفلسطينية برئيسها ياسر عرفات، لكن تواصل القصف الذي لم يعرف له مثيل أجبر القيادة الفلسطينية على التفاوض للخروج نهائيًا من لبنان، حيث أبرم اتفاق تخرج بموجبه المقاومة الفلسطينية تحت الحماية الدولية من لبنان، مع ضمان أمن العائلات الفلسطينية. وقد غادر عرفات بيروت بسفينة فرنسية مع كثير من مقاتليه وقد اتجه عرفات إلى تونس التي كانت قد أعلنت موافقتها على استضافة القيادة الفلسطينية.

 

بعد الخروج من لبنان، ركز ياسر عرفات جهوده على العمل السياسي الذي يبرع فيه، فكانت ذروة هذا العمل السياسي إعلان الاستقلال الفلسطيني وذالك سنة 1988 من قبل المجلس الوطني الفلسطيني وإلقاء ياسر عرفات خطابًا في 13 ديسمبر أمام الجمعية العامة في جنيف والتي نقلت مقرها إلى جنيف بشكل مؤقت بسبب رفض الحكومة الأمريكية، منحه تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة. بعد قبول عرفات بفكرة الدولتين وقرار 242 وبدء محادثات السلام بين إسرائيل والمنظمة بدأ الكثير من الإسرائيليين يبدون اهتمامهم بعرفات سيما السياسيين والباحثين الأكاديميين وغيرهم.. وبناء عليه فتحت الإدارة الأمريكية، برئاسة رونالد ريغان حوارًا مع منظمة التحرير الفلسطينية.

 

نظرت إسرائيل بكثير من التوجس والقلق إلى السياسة البراجماتية التي اتبعها عرفات، والتي كانت في محصلتها محو آثار العمليات التي قامت بها بعض التنظيمات الفلسطينية في أوائل السبعينات والتي لاقت في حينها استنكارًا عالميًا ووصفت بالإرهابية. وحصول المنظمة على مقعد مراقب في الأمم المتحدة، واعتراف كثير من المحافل الدولية بمنظمة التحرير الفلسطينية، ودولة فلسطين التي كانت قد أعلن عن قيامها من الجزائر، على الرغم من أن ذلك كان على الورق. مع ذلك، استمرت إسرائيل في التعامل مع المنظمة كعدو وقامت قوات كوماندوز إسرائيلية باغتيال خليل الوزير مساعد عرفات والرجل الثاني في المنظمة قبيل هذا الإعلان بأشهر.

 

كذلك رفضت حضور المنظمة كممثل للشعب الفلسطيني في مؤتمر مدريد في نهاية 1991.لكن إسرائيل اضطرت في نهاية الأمر، وبسبب الضغوطات الدولية، إلى التعامل مع المنظمة. وعلى ذلك، عندما تغير الحكم في إسرائيل، انخرطت إسرائيل ومنظمة التحرير في مفاوضات سرية، أسفرت عام 1993 عن الإعلان عن اتفاقيات أوسلو حيث قام ياسر عرفات، بوصفه رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، بالاعتراف رسميًا بإسرائيل، في رسالة رسمية إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين، في المقابل أعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.

 

وفي 1 تموز 1994 عاد ياسر عرفات، مع أفراد القيادة الفلسطينية، إلى الأراضي التي أعلنت عليها السلطة، وهي (أجزاء من الضفة وقطاع غزة) وقد التزم عرفات خلال ذلك، بإيقاف الأعمال المسلحة ضد إسرائيل ونبذ الإرهاب. بعد اتفاقيات أوسلو، أثر الهدوء النسبي الذي ساد، فاز عرفات وإسحاق رابين وشمعون بيرس بجائزة نوبل للسلام. ولم يلبث عرفات، أن أُنتخب رسميًا كرئيس فلسطيني للسلطة الفلسطينية. في شهر يوليو من عام 2000 التقى ياسر عرفات، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود براك في كامب ديفيد، تحت غطاء وإشراف الرئيس الأمريكي بيل كلينتون. في ذلك اللقاء، كان لدى الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي طموح يرتقي في سقفه إلى توقيع اتفاقية حل نهائي، ينهي النزاع الفلسطيني الإسرائيلي لكن عرفات رفض التوقيع.

 

من هنا بدأت حالة من الشد والجذب بين إسرائيل وياسر عرفات على رغم لقاء طابا للتوصل إلى اتفاق. وقد توافق ذلك مع اندلاع أنتفاضة فلسطينية ثانية، وقد اتهمت إسرائيل ياسر عرفات بالتحريض على أعمال العنف سيما شعاره الذي كان يرفعه (عل القدس رايحيين شهداء بالملاييين). وعلى الرغم من تمتع عرفات بشعبية واسعة لدى الفلسطينيين سيما في عقد الثمانينات بعيد الحرب على لبنان وأثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، إلا أن شعبية عرفات قد تدنت أثناء رئاسته للسلطة حيث وجهت للسلطة وبعض أقطابها أنتقادات شديدة تتعلق بالفساد وسوء الإدارة داخل أراضي السلطة. (في المقابل، حركة حماس بدأت شعبيتها في تلك الفترة في الصعود خصوصًا في قطاع غزة، بسبب شعور الكثير من الفلسطينيين بالإحباط مما وصلت إليه أوضاعهم من سوء).

 

بعد مباحاثات كامب ديفيد وطابا بدأت الدوائر الأمريكية وأوساط من الحكومة الإسرائيلية وبعض السياسيين الإسرائيليين بالقول أن ياسر عرفات لم يعد يعتد به، بمعنى عدم جدوى التفاوض معه. في هذه الأثناء ازداد العنف والعنف المضاد، وارتكبت عدة عمليات فدائية أسفرت عن مقتل كثير من الإسرائيليين وعلى الرغم من شجب عرفات واستنكاره الواضح لهذه الأعمال بدأ رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون، الذي كان على عداء مرير مع ياسر عرفات ولا يثق به ويرفض مقابلته، بتحميله مسؤولية ما يحدث.

 

اغتنمت إسرائيل كعادتها الأجواء المتوترة بينها وبين السطلة وخصوصًا الخلافات الفلسطينية – الفلسطينية – القديمة – الجديدة يضاف إليها حركة حماس المستجدة.. قامت إسرائيل في حصار عرفات بمنعه من مغادرة رام الله لذلك لم يحضر عرفات مؤتمر القمة العربية في بيروت في 26 مارس 2002 خشية ألا يسمح له بالعودة إذا غادر الأراضي الفلسطينية. وفي 29 مارس من نفس السنة حاصرته القوات الإسرائيلية داخل مقره في المقاطعة مع 480 من مرافقيه ورجال الشرطة الفلسطينية. وهكذا بدأت حالة من المناوشات التي يقتحم خلالها الجيش الإسرائيلي ويطلق النار هنا ويثقب جدار هناك، بينما كان عرفات صامدًا في مقره متمسكًا بمواقفه، في تلك الفترة بدأ يتقاطر عليه في مقره بالمقاطعة مئات المتضامنين الدوليين المتعاطفين معه.

 

وذلك دون إن يغيب عن صفحات التاريخ والجغرافية المؤامرت العديدة في مسيرة "الغام" النضال الوطني الفلسطيني الأرضية والبحرية والجوية والتي وصلت من قبل الإدارة الأمريكية وإسرائيل لحملة لإقصاء عرفات عن السلطة أو إبعاده عن مركز القرار فيها بدعوى تحميله مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع في أراضي السلطة الفلسطينية من تدهور، ففي يوم 24 مايو 2002 طلب الرئيس الأمريكي جورج بوش تشكيل قيادة فلسطينية جديدة، وبسبب الضغط الدولي وانسداد الأفق السياسي أضطر عرفات للتنازل عن بعض صلاحياته لرئيس الوزراء محمود عباس ولكن عباس سرعان ما "استقال" وتولى المنصب أحمد قريع!؟

 

تدهورت الحالة الصحية للرئيس الفلسطيني عرفات تدهورًا سريعًا في نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2004، قامت على إثره طائرة مروحية بنقله إلى الأردن ومن ثمة أقلته طائرة أخرى إلى مستشفى بيرسي العسكري في فرنسا في 29 أكتوبر 2004. وظهر الرئيس العليل على شاشة التلفاز مصحوبًا بطاقم طبي وقد بدت عليه معالم الوهن مما ألم به. تم الإعلان الرسمي عن وفاته من قبل السلطة الفلسطينية في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2004. وقد دفن في مقر المقاطعة في مدينة رام الله بعد أن تم تشيع جثمانه في مدينة القاهرة، وذلك بعد الرفض الشديد من قبل الحكومة الإسرائيلية لدفن عرفات في مدينة القدس كما كانت رغبة عرفات قبل وفاته.

 

تضاربت الأقوال كثيرًا في وفاة ياسر عرفات، إذ يعتقد بعض الفلسطينيين والعرب بأن وفاته كانت نتيجة لعملية اغتيال بالتسميم، أو بإدخال مادة مجهولة إلى جسمه، فيقول طبيبه الخاص الدكتور أشرف الكردي إن وفاة عرفات نتجت عن تسميمه، وطالب بتشريح الجثة، مؤكدًا أن تحليل عينات الدم لا يكفي وحده للكشف عن الإصابة بالتسمم. وأعتبر أن الأعراض التي ظهرت على عرفات أثناء مرضه ربما تكون ناتجة عن الإصابة بنوع من السم الطويل الأجل.، وتجدر الإشارة إلى أن زوجة أبو عمار سهى الطويل هي المخوَّلة الوحيدة بحسب القانون الفرنسي بالإفصاح عن المعلومات الطبية التي وردتها من مستشفى بيرسي، وهي لا زالت ترفض إعطاء اية معلومات حول حقيقة موت طائر الفينيق الفلسطيني حتى تاريخه..!؟

 

"..وصاعداً نحو التئام الحلمِ.. تنكمش المقاعدُ تحت أشجاري وظلّكِ… يختفي المتسلّقون على جراحك كالذباب الموسميّ.. ويختفي المتفرجون على جراحك.. فاذكريني قبل أن أنسى يديّ! و للفراشات اجتهادي.. والصخورُ رسائلي في الأرض.. لا طروادة بيتي.. ولا مسّادةٌ وقتي.. وأصعد من جفاف الخبز والماء المصادَرِ.. من حصان ضاع في درب المطارِ.. ومن هواء البحر أصعدُ.. من شظايا أدْمَنَتْ جسدي.. وأصعدُ من عيون القادمين إلى غروب السهلِ.. أصعدُ من صناديق الخضارِ وقوّة الأشياء أصعدُ… أنتمي لسمائي الأولى… وللفقراء في الأزقّة ينشدون: صامدون.. وصامدون.. وصامدون