26 نيسان 2019 | 00:00

كتب بول شاوول

زمن الأفكار الجاهزة

زمن الأفكار الجاهزة

كأننا نعيش اليوم أكثر من أي وقت مضى زمن الأفكار الجاهزة التي نبتلعها دون تفحصها أو تدقيقها. فهي تصير فجأة مقبولة أحياناً من الجميع أو من جماعات معينة سواءٌ عند المثقفين أو الكتّاب أو النخب أو عند العوام: فهي تساوي بين ذوي التفكير وذوي النوازع التي تملي تقبل كل خبر أو ظاهرة كحقيقة مطلقة. فنحن محاصرون في الصحف ووسائل التواصل وفي الشوارع وحتى في الجامعات ومراكز المعرفة بحقائق لا تعدو كونها من إنتاج الإيديولوجيات السائدة، أو الفكرة الأحادية سواء حقائق عقلانية أو مذهبية أو ثقافية أو سياسية. فمصنع هذه الآراء والمواقف والأفكار شغّال ينتج ما ينتج لشل كل إحتمال تفكيري عند الناس: إنها الخرافية المتجددة التشاؤمية المطلقة، أو التفاؤلية المطلقة إنجراف في لغة العصر وفي هواجسه من هذه المناخاة اللاعقلانية المسبقة أن العقل العربي مثلاً ليس مؤهلاً لإنتاج العلم أو الإنخراط في الحداثة أو الديموقراطية. فهو عقل مقولب استبدادي أسطوري وأحيانا هو تمظهر دوني للغرب. بل أن الشعب العربي نفسه غير قابل للتطور والتقدم والحضارة. لأنه ما زال وسيبقى خاضعاً للموروث ومن المستحيل تمتعه بقدرة على استشراف المستقبل. فهذه الأمور من اختصاص الغرب أي أنها نظرية عنصرية من الغرابة أن يؤمن بها حتى كثير من المثقفين والمفكرين والعرب أنفسهم. كأنهم يرفضون وجودهم.



ومن الأفكار الجاهزة جملة من الأقوال والخطب التي تنفي كل شيء: نهاية التاريخ، موت الشعر، موت المسرح، ما بعد الديموقراطية، ما بعد الانسان، ما بعد الحضارة، وما بعد الكتاب وما بعد الصحافة وما بعد المؤلف وما بعد وما بعد... كل هذه المواقف الجنائزية وخصوصاً عندنا ليست سوى دروس في الخضوع واليأس والاتكالية ومجافاة البحث عن الجوانب المضيئة في النتاج الانساني ومستقبله. وتتفاقم هذه الظواهر في أزمنة الهزائم والأزمات، بحيث يعمقها وينشرها كل من يستفيد من هذا الإحباط الفردي والجماعي وجعله إيديولوجيا يومية معيشة. إنها في النهاية عملة فكرية مزيفة. ويكفي أن نسترجع من زمن الإيديولوجيات في أوروبا عماء اليسار عما يدور حوله من وقائع وحقائق: ونتذكر جميعاً هذه الفضيحة التي نطق بها بعض اليساريين الفرنسيين بعد المناظرة التي عقدت بين جون بول سارتر (الشيوعي آنئذٍ) وبين ريمون أرون (الليبرالي): "من الأفضل أن نكون على خطأ مع سارتر من أن نكون على صواب مع أرون" فمثقف العقلانية الديكارتية تحول بفعل التفسير الايديولوجي إلى غبي سعيد. وحتى ايران تحاول أن تبث متل هذه الأفكار الجاهزة فالعرب بدو عاشوا حفاة يأكلون الجراد وليس عندهم أي حضارة. أكثر: تدعي اسرائيل أن القدس "عاصمتها الأبدية" أي أن اليهود هم من بنوها وبالتالي فهي لهم. والواقع أن القدس موجودة منذ خمسة آلاف سنة واليهودية بدأت منذ ثلاثة آلاف سنة وكانت القدس قبلها ذات حضارة وثقافة وازدهار وابداع.



ومن هذه البدع أن "حزب الله" ما زال مقاوماً للاحتلال الاسرائيلي. أين! في مزارع شبعا وهذه من الأفكار الجاهزة. منذ 13 عاماً لم تطلق رصاصة واحدة لتحرير شبعا والبديل مقاومة الدولة اللبنانية وتدميرها والانخراط في حروب طائفية ضد شعوب عربية في سورية واليمن والعراق، وزرع خلايا إرهابية في بلدان أوروبية وعربية. فالمقاومة صارت فكرة جاهزة أو عنواناً ضمنياً لتبعية هذا الحزب لإيران. ويقال أيضاً إنّ إيران تريد إزالة إسرائيل من الوجود وهذه أيضاً فكرة رائجة عند البعض. هذه العملات الفكرية المزيفة المعبر عنها بشعبوية متصاعدة تقلب الحقائق وتفرغ الرؤوس وتدمي العقلانية: إنها في النهاية من صناعة الإتجاهات التوتاليتارية.


يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

26 نيسان 2019 00:00