كتب زياد ضاهر (*):
"التباعد الاجتماعي"، "حظر التجول"، "اعلان حال الطوارئ" ، هذه سبل مواجهة تفشي فايروس كورونا، في عصر النيو - ليبرالية والانفتاح وحرية التنقل والاتصال!
تعطل "الانفتاح" لمصلحة "العزل"، وتهددت صيغ "الاتحاد" بسبب الحاجة "للحجر" أفراداً ودولاً، وجهتان متناقضتان تختصران عمق التغيير الذي ينتظرنا ما بعد الكورونا.
يشير المؤرخون الى أن الأوبئة والأمراض المعدية تترك بصمات طويلة الأمد في المجتمعات والدول، يمكن أن تعيد تشكيل بلدان، وتغيّر سياسات، وتغيّر العلاقات الاجتماعية. في القرن السابع عشر تعرضت ايطاليا لوباء الطاعون وكان سبباً في احداث صدمة اقتصادية في شبه الجزيرة الايطالية، وتسبب في تخلفها عن مثيلاتها من الدول الناشئة في أوروبا.
انكلترا التي شهدت عواقب مدمرة وطويلة الأمد بسبب الطاعون الأسود في العصور الوسطى، تأثرت فيها الزراعة، الكنيسة، الاقتصاد، الطبقات الاجتماعية، وبحسب بعض المؤرخين تغيرت بريطانيا نهائياً بعده، وأدى الطاعون الى إعادة تشكيل النظام الاجتماعي وعجّل بنهاية الاقطاع.
الآن، ما زلنا في خضم الأزمة وما ظهرت بعد نتائج حاسمة لجهود نخبة "العالم الحر" من آلاف العلماء والمتخصصين والمختبرات العالمية متعددة الجنسيات ذات التقنية العالية، في ايجاد علاج أو لقاح لمواجهة هذا الوباء.
ليس تفصيلاً أن يفشل العالم المتحضر والحرّ في مواجهة هذا الوباء وانكشاف ضعفه.
"العالم الحر" الليبرالي واجه "الاستبداد" في العالم، و عَبَرا في صراع محموم على "حكم العالم" في مرحلة "الحرب الباردة" بين الدولتين الأعظم في العالم (الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي)، استخدما في صراعهما كل سبل الحروب العسكرية غير المباشرة وبالوكالة والحروب الاقتصادية ووصلا الى حرب النجوم في سباق لاقتناء عناصر القوة وتكديسها في ارصدتهما العالمية وجبهاتهما التي تشكلت من محاور متصارعة بكل الاشكال.
كان "انهيار" الاتحاد السوفياتي بمثابة "الجائزة الكبرى" لمنظري الليبرالية والعولمة، وما سبقه وتبعه من تحول للأنظمة السياسية في العالم الى الديموقراطية. احتفل فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ" بنهاية الأنظمة الشمولية، معتبرا أن التاريخ انتهى انطلاقا من قناعته بأن التاريخ هو تطور الانسانية وبانتصار الليبرالية والانظمة الديموقراطية، تكون الانسانية وصلت الى النظام الامثل والاقوى الذي سيحكم الانسانية بعد انتهاء الانظمة الاستبدادية.
لقد اصاب الوباء الثقة الممنوحة للحكومات المنتخبة بأضرار كبيرة!، كيف ستبرر لناخبيها أرقام الموازنات التي أنفقت على التسلح كل تلك المليارات من الدولارات نظراً إلى موجبات تحصين "الأمن القومي" (أميركا 717، الصين 224، السعودية 30، الهند 55، المانيا 49، بريطانيا 47.500، اليابان 47، روسيا 44، فرنسا 45.500) بينما جاء اختراقه من جهة القطاع الصحي الذي يقع في صلب متطلبات الحياة اليومية. ولطالما شكلت المطالب الحياتية للمواطنين عنواناً صاخباً في تحركات شعبية معارضة في العديد من عواصم العالم خلال السنوات الاخيرة.
تتخطى الأضرار التي سببها انتشار فايروس كورونا مصداقية الحكومات وكفاءتها في حماية مواطنيها، لتصل الى "النظام الدولي" والعلاقات بين الدول. صيغ التعاون الدولي والتحالف والاتحاد ستخضع لاعادة تقييم ان لم نقل انها بدأت اجراءات الفصل والتباعد كما هو حاصل في الدعوة للتباعد الاجتماعي للحد من انتشار الوباء، فالدول اتخذت اجراءات اقفال الحدود بحراً وبراً وجواً ولعل ابرز الشواهد ما حصل للاتحاد الأوروبي الذي عطل حرية التنقل بين 26 دولة وعلى مقربة من خروج بريطانيا من اتفاقية الاتحاد الأوروبي التي أثارت في الأساس العديد من التساؤلات عن مصير الاتحاد كأحد انجازات الليبرالية - اقتصاد السوق. من المبكر حسم نتائج انتشار الوباء وتداعياته على العلاقات الدولية والنظام العالمي، نظرا إلى تعقيدات العلاقات الدولية وتشابكها، لكن الأكيد أن الآتي من الأيام سيفرض تفكيراً مختلفاً حول النظريات والقضايا الكبرى كافة، الأمن القومي واتحاد الدول ودور المنظمات الدولية في حماية الاستقرار الدولي ليس من الحروب والاقتتال فقط، فانتشار وباء كورونا ربما أفزع المواطن في دول الشمال والجنوب وأضر بالاقتصاد العالمي أكثر مما حصل ازاء عملية "ذئب شارد" تتبناها "داعش".
ربما سيشهد عالمنا "ولادة للتاريخ" يطور فيها الانسان خططه لمواجهة الأخطار المحدقه به، وانتاج نظام جديد يغطي عورات كشفها انتشار وباء كورونا.
(*) عضو المكتب السياسي في "تيار المستقبل"
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.