6 نيسان 2020 | 20:35

منوعات

"كورونا" يُعيد الإعتبار لدكان زمان! (١)

زياد سامي عيتاني*

"يا فتاح ياعليم يا رزاق يا كريم، سبحان مين مقسم الأرزاق، أصطبحنا وأصبح الملك لله"...

بهذا الدعاء كان يفتح صاحب "دكان الحي" قديماً، زمن الخير والبركة، بابه محله الخشبي في الصباح الباكر من كل يوم، إستعداداً لآستقبال زبائنه من "أولاد المحلة" (المنطقة) لشراء حاجات بيوتهم قبل مغادرتهم إلى أعمالهم أو وظائفهم...

•الدكان رمن البركة والقناعة:

فقبل الحرب المشؤومة بكل تحولاتها التي عصفت ببلدنا، وأطاحت بالكثير من بناه وسلوكياته وأنماطه وقيمه المجتمعية، كان "دكان الحي" الذي يلبي حاجات الناس الضرورية، له مكانته وخاصيته وحضوره المميز في سائر المناطق السكنية، بمختلف طبقاتها ومستوياتها الإجتماعية والمعيشية، حيث كان صاحب الدكان يعتمد على محيطه السكني، وبالمقابل أهل الحي يقصدونه لشراء كل موادهم الإستهلاكية "كل يوم بيومه"، فوقتها لم تكن المواد المعلبة والمثلجة لا دارجة ولا رائجة، فربات البيوت كن يحرصن على كل ما هو طازج من خضار وفاكهة ولحوم ودواجن وسواها.

إذا كان الدكان مقصد الناس في زمن البركة والبساطة والقناعة، للتسوق وتأمين الإحتياجات اليومية الأساسية من مواد تموينية وغذائية وإستهلاكية للبيوت والمنازل، وذلك قبل زمن التخمة و التحول الإستهلاكي الجشع، و قبل أن تتوحش شهوات الناس بِنَهم ماهو ضروري وما هو غير ضروري من المنتوجات الكمالية من "المولات" و"السوبر ماركات" العملاقة، على سبيل التباهي والتفاخر والمباهاة!

•علاقة ثقة بين "الدكنجة والزبون:

فالعلاقة التي كانت تربط إبن الحي ودكاكينها المنتشرة، علاقة حميمة ودافئة، علاقة ثقة وأمانة، لم تقتصر يوماً على علاقة البائع والمشتري، بل علاقة ترسخ النسيج الإجتماعي الذي كان قائماً بين الناس، وأساسه القيم الأخلاقية والإنسانية ومراعاة عامل الجيرة والعشرة، "فالعشرة لا تهون إلا على إبن الحرام".

في الدكان كان يجد المشتري ضالته، دون تكلف، وبكلفة حلال، ودون بطاقة إئتمان إلكترونية، ودون أن يحتاج إلى "عرباية" يجرها ليضع بها مشترياته، بل كان عليه أن يطلب من صاحب الدكان إحتياجاته ليعبئها له في أكياس الورق البنية، ويرسلها له إلى باب بيته بواسطة "الصبي" على دراجته الهوائية السوداء، لأن "الدكنجي" أو (التكنجة) باللهجة البيروتية القديمة، كان عنده "مخافة الله" ويرضى بالربح القليل، ويغار على إبن محلته، وكان يطول باله عليه في الدفع، فغالباً ما كان يُدَّين الموظف حتى يتقاضى راتبه آخر الشهر، ويدوين "سحوباته" على دفتره الخاص.

•الدكان ينقذ زبائن "المولات" و"السوبر ماركت":

وها هو الإعتبار في زمن "كورونا" اللعين يعود إلى "دكان الحي"، بعدما كان تعيش آخر أيامه، وكأن عجلة العدالة تدور دورتها، وكل شيء يرجع كما كان دون قيود، فها هي الدكاكين تنقذ الناس المحاصرين بفعل العزل الإلزامي في منازلهم، لجهة تأمين مستلزماتهم الأساسية، خصوصاً وأن أغلبية "المولات" والسوبر ماركت" قد أغلقت أبوابها، في حين إتخذ من بقي منها مشرعة أبوابها أمام الزبائن إجراءات مشددة وأقرب ما تكون إلى الإجراءات المذلة.

•العودة الإلزامية للدكان:

فها هم من ركبوا موجة الحداثة المدنية والرفاهيه والإستعراضات الذي كانوا يمارسونها في الأروقة الفسيحة، حيث كانوا يتجولون بين أجنحة البضائع المختلفة التي يستدل عليها بواسطة اللافتات والسهام والإشارات، والتي كانت بالنسبة لهم مكاناً لهم للنزهة والتجوال، عادوا مرغمين إلى بيئتهم وإلى محيطهم، بعدما خانوها، فيكفي الواحد أن يتصل ب "الدكنجي" القريب من منزله، حتى يؤمن له كل إحتياجاته في طرف ربع ساعة، أما في حال رغب أن "بخطف رجله" إلى الدكان فيجد صاحبه يستقبله بكل حرارة وترحاب، بعيداً عن العتب أو الإنتقام لهجرته الطويلة له، لأن "الجار للجار"، و "عند الشدائد تظهر معادن الناس".

*

واليوم لسان حال تلك الدكاكين الشعبية المتواضعة يقول: "صحيح الزمن دوار"، وكذلك: "إحفظ عتيقك، جديدك ما بدملك"!!!

-يتبع: دكان زمان (ما هب ودب)

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي- عضوية جمعية تراث بيروت.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

6 نيسان 2020 20:35