7 نيسان 2020 | 12:12

ثقافة

الإحتفال التراثي والديني للبيارتة بليلة النصف من شعبان...(٢/١)

الإحتفال التراثي والديني للبيارتة بليلة النصف من شعبان...(٢/١)


زياد سامي عيتاني*

تكونت العادات والتقاليد البيروتية عبر العصور، وبعضها إندثر بسبب التحولات الإجتماعية والثقافية والإجتماعية، إلا أن بعض هذه التقاليد والعادات لا يزال متجذراً في الحياة البيروتية، تأكيداً لأصالتها وهويتها ورسوخ المبادئ والقيم الأخلاقية والإيمانية عند أهلها المشهود لهم بالتقى والورع والتدين بمبادئ الدين الحنيف.

ومن هذه العادات والتقاليد التي لا يزال أهل بيروت يتمسكون بها الإحتفال بليلة النصف من شعبان التي تسبق شهر رمضان الكريم بحوالي خمسة عشر يوماً، وهي ليلة فضلى عند المسلمين قاطبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها: "إذا كانت ليلة النصف من شعبان، فقوموا ليلها وصوموا نهارها، ففيها يتجلى الله على عباده...".

•إحتفالات النصف من شعبان عبر التاريخ الإسلامي:

جرت العادة قديماً في سائر البلدان الإسلامية ومدنها أن تقام الشعائر الدينية في المساجد، التي كان أبرزها على الإطلاق الاحتفالات الدينية التي كان أهل مكة المكرمة يقيمونها في الحرم الشريف كل عام، والتي يتبعها من حيث الأهمية الإحتفالات التي كانت تقام في مصر المحروسة.

•إحتفال بيروت في الجامع العمري الكبير:

في بيروت فقد جرت العادة منذ القدم أن يحتفل أهلها بليلة النصف من شعبان من خلال إقامة الاحتفالات الدينية التي كانت تعم جوامعها وزواياها والتي كانت تضاء مصابيحها وأنوارها فتبدو كالنجوم النيرات التي تشع في سماء المدينة وتبدد جيش الظلام.

وكان المسجد العمري الكبير في باطن بيروت أي داخل سورها خلف أبوابها السبعة يشهد الإحتفال الديني المركزي في ولاية بيروت بمشاركة مفتيها وقاضيها الشرعي ونقيب الاشراف وكبار المأمورين في دار الولاية ووجهاء القوم وكبارهم والأعيان ونقباء التجار والمهن والحرف.

وبعدها في العصر الحديث، أي عند قيام دولة لبنان الكبير، بقي الإحتفال بهذه المناسبة العظيمة ينظم في الجامع نفسه.



•إختيار الجامع العمري لأهميته المركزية والتاريخية:

إن إختيار الجامع العمري الكبير لإقامة الاحتفال المركزي كانت له دلالته نظراً لأهميته التاريخية، فضلاً عن كونه الجامع الأكبر الذي يتوسط المدينة، (قبل إعادة تشييد جامع محمد الأمين بمبادرة كريمة من الشهيد الرئيس رفيق الحريري رحنه الله وعلى نفقته، الذي بات أكبر مساجد العاصمة، والمعتمد رسمياً من قبل دار الفتوى لإحياء المناسبات وإقامة الشعائر الدينية الرسمية) فهو يعتبر أقدم الأبنية الاثرية في بيروت، حيث كان يعرف في الماضي باسم "مسجد سيدنا يحي" ثم "مسجد فتوح الاسلام"، الى أن اطلق عليه اسم "الجامع العمري الكبير" تكريماً للخليفة عمر بن الخطاب.



•المراسم الإحتفالية والبرنامج الديني:

كما أسلفنا، فقد كانت تقام المراسم الرسمية للمناسبة في الجامع العمري الكبير، ويشارك في الإحتفال رئيس الحكومة ومفتي الجمهورية البنانية (تحديداً عندما تولى منصب الإفتاء المفتي الراحل محمد توفيق خالد والمفتي الشهيد حسن خالد) والوزراء والنواب والسفراء والعلماء الأجلاء وقضاة الشرع وجموع المؤمنين.

فكانت ترفع اليافطات التي تكتب عليها الآيات القرآنية والعبارات المعظمة للذكرى، وتنصب سعف النخيل وأقواس النصر وتعلق الزينات، وتضاء الشموع والقناديل والفوانيس على مدخل الجامع وفي محيطه، وتستقدم الفرقة الموسيقية الكشفية لتعزف الأناشيد الحماسية والوطنية، ترحيباً بالشخصيات الرسمية والضيوف.

وداخل الجامع كان يتضمن الإحتفال تلاوة عطرة من القرآن الكريم لشيخ قراء بيروت، وكلمة لسماحة مفتي الجمهورية، وأخرى للمدير العام للأوقاف، يتبعها كلمة لإمام المسجد، وتقام الصلاوات، وترفع الأدعية والأذكار والأوراد تضرعاً لله تعالى، كذلك تتلى السيرة النبوية الشريفة.

وكان يتخلل كل فقرة من فقرات الإحتفال المدائح النبوية والأناشيد الدينية التي لها وقعها الخاص في هذه الليلة المشهودة، فالإنشاد الديني له مكانته المميزة ونكهته الساحرة في نفوس المؤمنين، الذين كانوا يذوبون في حضرة مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أصوات المنشدين الشجية التي تهز القلوب خشوعاً ورهبةً وتملؤها نفحات روحية وإيمانية، تقربهم من الله سبحانه وتعالى. فكانت تمتلئ أرجاء الجامع بحالة مفعمة بالإيمانيات والروحانيات، التي تخشع لها القلوب المملوءة بالتقى والورع...

•الإيفاء بالنذور لمقام الأوزاعي:

ومن عادات البيارتة في هذه المناسبة الجليلة الوفاء ب "النذور" التي كانت توهب في غالبيتها لمقام الإمام الأوزاعي رضي الله عنه (إمام بلاد الشام ومؤسس العيش المشترك في بيروت)، وإلى جامع الخضر . وكانت "النذورات" عبارة عن التصدق ب المال والزيت و نخر الخراف وتوزيع لحومها على الفقراء والمحتاجين مع الخبر، ، تباركاً بفضائل هذه المناسبة الفضلى.



•إحتفالات الحرم المكي:

وبالعودة إلى إحتفال الحرم المكي بالنصف من شعبان فقد قال فيه "إبن جبير" في وصفه خلال رحلته: "وهذه الليلة المباركة، أعني ليلة النصف من شعبان، عند أهل مكة معظمة للأثر الكريم الوارد فيها، فهم يبادرون فيها الى أعمال البر من العمرة والطواف والصلاة أفراداً وجماعة، فينقسمون في ذلك أقساماً مباركة، فشاهدنا في الحرم المقدس اثر صلاة العتمة (العشاء)، جعل الناس يصلون جماعات جماعات... وأشعلت المشاعل وأسرجت المصابيح ومصباح السماء الازهر الاقمر قد افاض نوره على الارض وبسط شعاعه، فتلألأت الانوار في ذلك الحرم الشريف الذي هو نور بذاته..."

أما "إبن بطوطة" فقد ذكر ليلة النصف من شعبان في وصف رحلته بقوله، بما يتطابق مع ما ذكره إلن جبير.



•إحتفال مصر المحروسة:

أما الإحتفال الرسمي بليلة النصف من شعبان يعود إلى العصر الفاطمي، حيث يبدأ بعد صلاة الظهر بخروج قاضي القضاة في موكب كبير إلى مكان جلوس الخليفة، وتكون قد سُدت ورُشت بالرمل في الوقت الذي يكون قد إصطف فيه جنود الوالي على جانبي الطريق..

وعاد الاهتمام بهذه المناسبة في عصر المماليك، وذلك بالاحتفال بها في حوش القلعة الكبيرة، وإقامة الزينات والولائم وتوزيع الصدقات علي الفقراء، حيث تسير المواكب وتنشد الأناشيد وكانت تضرب خيمة عظيمة في حوش القلعة.

ويبدأ الاحتفال بقراءة القرآن، ثم يأتي الوعاظ والمنشدون، فإذا ما إنتهي كل منهم دفع إليه السلطان بصرة فيها دراهم من الفضة، وحينما تنقضي صلاة المغرب تمد الأسمطة فيأكل الجميع ويوزع منها على الفقراء...



-يتبع: الجانب الإجتماعي وحلو "المشبك".

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

7 نيسان 2020 12:12