كتب زياد ضاهر(*) :
قبل الطائف كان رئيس الجمهورية هو الحاكم الذي "لا يُسأل" والذي يرسم سياسة الدولة ويشرف على تنفيذها، واذا "غضب" ، أجبر رئيس الحكومة على الاستقالة!.
وكان رئيس الوزراء هو الذي يٌسأل عما نفّذَه بناء على طلب رئيس الجمهورية، وهو الذي يشكل الوزارة بناء على رغبة رئيس الجمهورية وهو الذي يدافع عن أخطاء رئيس الجمهورية وهو اذا ما اختلف مع فخامة الرئيس أجبر على الاستقالة.
وقيل عن تلك الحقبه أن رئاسة الحكومة "درع لوقاية الرئاسة الأولى، ومحرقة لمن يتولاها من السنة!" .
لعلها أحدى انجازات "العهد القوي" و ادارة "حزب الله" للحكم بالتضامن والتكامل مع "التيار العوني"، حيث اعيد العمل بصيغة ما قبل الطائف، من لحظة تعيين رئيس الحكومة ووزرائه. والحزبان يصرّان بسياساتهما على التذكير بتاريخهما المشترك لرفض الطائف.
منذ التأسيس كانت الرئاسة الأولى مصدر زعزعة الاستقرار في كل مرة يشغلها من يستأثر بالقرار ويستخدم الموقع للحكم والتحكم! ، أما الرئاسة الثالثة فكانت مرتكزا لارساء الاستقرار ولو على حسابها و حساب من تمثلهم في النظام. و المسألة ليست مرتبطة بطائفة الموقعين انما ترتبط بمن يشغل هذين الموقعين.
في مراجعة لمراحل التأسيس الأولى عندما تم تثبيت طائفة رئيس الجمهورية للمسيحيين بعد ترشح المغفور له بشارة الخوري و رضي المسلمون (عبّر عنهم الرئيس صائب سلام باسم "الزعماء الوطنيون") برئاسته بعد زيارة قام بها الى مصر و عاد زائرا للقيادات الاسلامية في حينه ، ومنهم الرئيس "صائب سلام" فقال الأخير: "زارنا الشيخ بشارة الخوري في الغدير ، وكان حديث طويل بحضور جميل مردم عن النحاس باشا ودعمه له واستعدادات الخوري على الصعيد العربي. وقد قام في اليوم التالي بزيارة الزعماء الوطنيين ونقل اليهم نتيجة محادثاته في القاهره وطمأنهم الى نزعته الاستقلالية واتجاهه العربي. فوثق به الوطنيون".
تلك الثقة التي منحوها "الوطنيون" للرئيس بشارة الخوري ، و منهم قسم كبير من المسلمين، سمحت باسناد الرئاسة الأولى للمسيحيين و الثانية والثالثة للمسلمين. ولكن الهيمنة والاستئثار التي شابت العهود التي تلت في الحكم أنتجت عدم استقرار وتهديد للكيان اللبناني.
وللاستدلال على معاناة من شغل الرئاسة الثالثة في حقبة ما قبل اتفاق الطائف نستذكر منها:
الرئيس عبد الحميد كرامي قال أمام خلفه الرئيس سعدي المنلا: "لقد ربطوا يدي و رجلي" ، فأجابه الرئيس المنلا ، وكان ذلك بعد أن أعفي من منصبه ، قائلا: " وأنا أيضا كذلك، بل و فوقها اغمضوا عيني وربطوا لساني يا أبا رشيد..."
الرئيس سامي الصلح أطلق الكلمة المأثورة على رئاسة الحكومة " باش كاتب " وقال في مجلس النواب بتاريخ 9-9-1952 مايلي:
"انهم يريدون ان يكون رئيس الوزراء آله طيعة في أيديهم لتنفيذ مآربهم وتحقيق مطامعهم وخدمة مصالحهم الخاصة ، وبما أننا حاولنا أن نحكم ونعيد الحكم الى السراي ، قامت قيامتهم علينا ودبروا المؤامرات في الغرف السوداء للحيلولة دون تحقيق الاصلاح المنشود..."
الرئيس عبدالله اليافي قال في كتاب استقالته بتاريخ 2-2-1966:
" ...ولقد ترامى الى مسامعي في هذه المناسبة وقبلها، على لسان بعض المسؤولين أو السياسيين أن رئيس الوزراء اذا لم يستقل من منصبه عندما يطلب اليه ذلك، فانه يخلق بذلك "أزمة حكم" وأقول ردا على هذا الزعم بصراحة تامة أن أزمة الحكم هذه ، انما تنشأ اذا اختل التوازن الصحيح والدقيق بين كفتي الحكم في الرئاسة الأولى و الرئاسة الثالثة ، أو اذا راق للبعض أن يتخلص من رئيس الوزارة في الوقت الذي يراه مناسبا ، بشن حملات اعلامية عليه ، واسعة النطاق .... وأظنني في غنى عن القول ، ان الحملات على رئاسة الوزارة ، على هذا النحو ، يخلق بالتمادي والاستمرار ، حالة يخشى معها أن تؤثر على الوحدة الوطنية في جذورها العميقة..."
الرئيس رشيد كرامي قال في بيان استقالته 22-10-1969 :
"... لكن ليس من المعقول في شيئ أن يحمل المرء مسؤولية ما لا رأي فيه ، ومن باب أولى بأنه لا يحمل مسؤولية ما يختلف مع رأيه وتفكيره ومعتقده..."
تلك الكلمات التي جاءت في مرحلة مهمة من تاريخ لبنان تعكس المسار السياسي الذي سلكه بعض من تولى الرئاسة الأولى ، و جاءت حرب ال1975 التي لم تنتهي الا باتفاق سياسي قارب تلك الادوار والصلاحيات.
عقد اتفاق الطائف فعدل الدستور و أصبح لرئاسة الحكومة صلاحياتها وقرارها كسلطة تنفيذية، ولا تكتمل الحديث عن نتائج اتفاق الطائف الا بالاشارة الى تكريس "المناصفة" و ذلك ما كان ليحصل لولا وجود شخصية ك"الشهيد رفيق الحريري" الذي شكل ضمانة المناصفة و قال كلمته الشهيره "وقفنا العد". فالاتفاقات العظيمة لا تدخل التطبيق الا بوجود زعامات لها حضورها و تأثيرها لتشكل ضمانة لتطبيق روح النصوص و أحرفها.
ما بعد اتفاق الطائف و بالرغم من تعديل النص الا أن التربص بالرئاسة الثالثة كان حاضراً في كل مرّة يشغلها رفيق الحريري، في ضل الوصاية التي ما تركت وسيله الا و استخدمتها لمحاصرة الحريري و الحد من نفوذه المتنامي. وكان السوري يدرك مدى خطوره شخصية سنية وطنية تستطيع أن تجمع ولأول مرّة سنة لبنان في كنف زعامة وطنية واحدة، بعد ان كانوا يتبعون للزعامات المناطقية و ان كانت من طوائف أخرى. فانبرت الوصاية السورية وحلفاؤها من اللبنانيين الى شن الهجمات واختلاق العراقيل لمشروع بناء الدولة و اعبار ما هدمته حروب الآخرين من القوى السياسية التي دخلت الدولة بعد اتفاق الطائف الذي عارضه ميشال عون و حزب الله في حينه.
لم تتوقف الحملات ضد رفيق الحريري حتى استشهاده فكان ثالث رئيس وزراء بعد رياض الصلح و رشيد كرامي الذين تم اغتيالهم و لم يكن لهم اي مشروع خارج ال10452 كلم وكانت اجنداتهم لبنانية عربية خالصه. و من بعده استمرت الممارسات ضد كل من سار على نهجه و سيرته من ولي الدمم الرئيس سعد الحريري الى رفيق دربه الرئيس السنيوره الى سليل بيت سلام والحليف الصدوق لنهج الحريري. كلهم تعرضوا لما كان يتعرض له رؤساء الحكومات ما قبل الطائف.
التجني والعرقلة والتعطيل و التشهير و التهديد .... كلها اساليب العصرين ما قبل الطائف وما بعده. بهدف السيطره على صلاحيات الحكومة والموقع الثالث في الجمهوريه لانها تمثل "الحكم" و الفعلي كونها السلطة التنفيذية. الا أن النصوص تحتاج الى قوة تحميها و التزام لتطبيقها و مسؤولية لاحترامها.
الآن يستمر مشروع الاستحواذ على الحكم تارة من خلال هرطقات دستورية تدخل من قرار مجلس الوزراء مجتمعا لتقسم الصلاحيات و قوة القرار على الوزراء وهو "استيراث" قوة الرئاسة الثالثة في الجمهورية وهنا يكمن نهج و عصر "الردّة" الى زمن ما قبل الطائف وهذا دونه مخاطر على صيغة الحكم ووجود لبنان.
فماذا بقي من الطائف اذا؟
انها المناصفة التي حصل عليها اللبنانيون و حميت وكرست ولم تهدد يوماً من الرئاسة الثالثة. وفي زمن "العهد القوي" الذي أريد به توازن "حكم الأقوياء" ، واذ به يصبح "عهد ردّة" للعهود الغابرة من الاستئثار في الحكم و استحكمام الدولة و مفاصلها بقوة حزب الله و حضور التيار العوني. لقد وفر التيار العوني لحزب الله المطية التي توصله للاستحكام بالبلد و توفر للعونيين فرصة الحكم بأي ثمن حتى لو كان على حساب تاريخ المسيحيين في تثبيت هوية البلد من دون ان تنجرف نحو الذوبان في العروبة ولا التبعية للغرب، وهو نضال أجيال من اللبنانيين الوطنيين من كل الطوائف ويتم الاطاحة به لصالح الهيمنه الايرانية فهل ينجحون؟
عمليا تم تعيين رئيس الوزراء و الوزراء، ووضعت لهم الخطط على هشاشتها في غرف "القصر الجمهوري" أو في "ميرنا الشالوحي" ، و شنت الحملات من تشهير وافتئات مع تغييب للعدالة تحت عنوان "مكافحة الفساد"!.
ان تجربة حزب الله-عون المعاصرة المشوهة للحكم والمسؤولية في اداء الصلاحيات أعادت الصورة الغابرة لمعضلة النظام ، فرئيس الجمهورية هو الحاكم ولا يُسأَل بحكم النص القانوني، أما رئيس الوزراء فهو الذي يسأل عن تنفيذ ما أمر به وقَبِل السير به!.
هذا حال "حكومة العهد"، ولو سألنا من المسؤول عن الأخطاء التي ترتكب في هذا العهد؟
سيكون رئيس الحكومه حسان دياب وحيدا هو المسؤول ووزراء حكومته، ولا تبعات على الرئاسة الأولى وبالتالي تكون الرئاسة الأولى عادت لسابق عهدها فهي التي تحكم فعليا و لكنها لا تحاسب ولا يمكن حسابها.
ان ما نص عليه الطائف لجهة الحد من سلطة الرئاسة الأولى التي كانت شديدة التوسع أصبح حاليا شبه معطل سياسيا.
وهذا ما يعتبره العونيون انجازا في سياق الخطاب الشعبوي القائل باستعادة حقوق "المسيحيين"!
وحزب الله الذي ينفذ رغباته و يفرض أجندته من خلال حليفه العوني الذي شكل جسر عبور لمشروع حزب الله الى التحكم بالدولة وأبقى بعيداً عن المحاسبة القانونية، وهذا ما يردده دوما أنصاره عن أن حزب الله لم يشارك في الحكم و لا في المواقع الرسمية الا في مجلس النواب و من ثم بعد دخوله الى الحكومات بقي هذا النوع من التسويق الاعلامي الوهمي عن نأي حزب الله بنفسه عن المحاصصة في الدولة ، فلماذا يطالب بحصة و هو الذي يقسم الحصص؟!
انه زمن "الردّة" الذي تسيّد عليه حزب الله و التيار العوني في استعادة لمنظومة الحكم القوي الذي لن ينتج الا المهالك والقلاقل و عدم الاستقرار و آخر ضحاياه ربما ستكون المناصفة .
الوطنيون من طينة "صائب سلام" اطمأنوأ ل"بشارة الخوري" بعد زيارة النحاس باشا و هدأت هواجسهم لما لمسوه من التزام الخوري بعروبة لبنان فأعطوه الرئاسة الأولى.
والوطنيون من طينة رفيق الحريري ثبتوا المنصفة نصا وروحاً و قدموا نموذجا للحكم والمسؤولية.
لعلنا نحن بأمس الحاجة لبشارة الخوري جديد يعيد الشراكة الى نصابها الشرعي و يطرد العابثين بإرثه و إرث أمثاله من الوطنيين و إرث الكنيسة في بناء لبنان ليعود الى "لبنان الرسالة".
(*) عضو المكتب السياسي في "تيار المستقبل"
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.