19 أيار 2020 | 08:29

صحافة بيروت

إحتراف التضليل

إحتراف التضليل

كتب مصطفى علوش في "الجمهوورية"‏‎: ‎


«ومن البليّة عذل من لا يرعوي عن جهله، وخطاب من لا يفهم»

المتنبي


أثناء محاكمات نورمبرغ الشهيرة التي أدارها الحلفاء لمحاكمة القيادات النازية بعد الحرب العالمية الثانية، انفجر «هملر» ـ نائب أدولف هتلر ـ بموجة من الضحك عند عرض خطاب زعيمه في ميونيخ قبيل اندلاع الحرب، حيث تناول «هتلر» زعماء العالم بتعابير مغرقة في الشعبية، وقدّم عرضاً هزلياً مميزاً، سخر فيه من رؤساء فرنسا وانكلترا والولايات المتحدة. والواقع هو أنّ استخدام التعابير المفرطة في شعبيتها، والخارجة عن المألوف في لغة التخاطب، هي من الصفات الملازمة للقائد الشعبوي والديماغوجي. لكن قمّة الديماغوجية تأتي في نطاق التضليل، وقمة التضليل تأتي عند سرد الأرقام وسرد وقائع مخضبة بالأضاليل. وعلى فكرة، فإنّه من علامات الشرير، أي الدجّال، هي قدرته على سرد الحقائق الواضحة والثابتة، يمرّر من خلالها الأكاذيب لتضليل الناس. الشعبوية هنا، حتى خلال الكلام المنمق، تأتي من خلال رموز تداعب الأحاسيس وتثير المشاعر، ولكن من دون الإفصاح عنها بشكل مباشر.

وحسب تعريف الباحث الأكاديمي الفرنسي «بيير أندريه تاغويف»، في كتابه «الوهم الشعبوي»، فإنّ القائد الشعبوي يسعى الى تسخيف النخب الاجتماعية والسياسية، ويزعم بأنّ السياسة هي مسألة سهلة ومفتوحة لتداول عموم الناس، في خطاب يستهدف الجماهير المأخوذة بظرف وحكمة وسعة معرفة وشفافية القائد. ومن الخطأ افتراض أنّ الخطاب الشعبوي يجذب فقط الفئات الشعبية، فهذه الكذبة الكبيرة قادرة على خداع الجميع خصوصاً في مراحل الأزمات، أو في فترات الشدّة. والمثال، هو ما ضمّته النازية من نِخب وعلماء ورجال أعمال. وتكون الشعبوية في قمّة فعاليتها عند خلط الحقائق بالأكاذيب وبإغداق الوعود المضخّمة على الناس (القضاء على الفساد والرخاء والبترول والمطارات والبحبوحة والنصر...). وقد تكون أكثر النتائج كارثية للمسار الشعبوي، هي في حال أقنعت معظم الشعب، مما يفتح الطريق أمام السلطة المطلقة للزعيم، ومن بعدها يبدأ المسار الانحداري، حتى بعد أن يدرك الجميع أنّهم وقعوا في الخطأ، لكن طريق الرجعة تصبح عندها مستحيلة، ولو نفسياً، لأنّها تحتاج إلى تعب وإعادة تفكير، وتحمل شماتة الشامتين. فيذهب عندها القائد وجموعه إلى منطق شمشوم بهدم الهيكل عليهم وعلى الشامتين بهم.

وتزدهر الشعبوية أيضاً على تشييع منطق الكراهية والعنصرية بين المجموعات، بحيث يصبح «الغير» المسؤول الوحيد عن كل مصائب المواطنين «الشرفاء»، أي أنّ الفساد هو الآخر والشر هو الآخر، وحتى الشهيد يتمّ تشويه صورته، وحتى محاولة تدمير الشاهد على قبره. فالقائد الشعبوي، بنرجسيته الخبيثة، يتمنّى لو يستحصل على لقب شهيد، ولكن من دون أن يموت من أجل اللقب، فيخترع مثلاً أنّه شهيد اغتيال سياسي أو معنوي! ويمكن لهذه الشعبوية أن تجرّ الى حروب كارثية ومغامرات عنيفة، تنتهي عادة بمصيبة إنسانية كبرى.

فالإنجراف وراء الشعبوية هو «مرض» عابر، أو جائحة، قد يتسبّب بالأذى عند حلوله بالمجتمع، وقد تزول آثاره بعد الشفاء منه، لكن الضرّر الذي تركه قد يكون بحجم الكارثة.

لقد قدّمت العونية السياسية المثال الأوضح على هذا المسار، منذ الأيام الأولى التي دخل مؤسسها على عالم السياسة سنة 1988، مع الخطابات المغرقة في الانتصارات والمعارك الوهمية و»تكسير الرؤوس».

أظن أنّ النسخة المجدّدة للقيادة الشعبوية أتت مع ولي العهد، الذي يستعد لتسلّم دفّة القيادة، مطيحاً كالسلطان سليم العثماني، (مع أنّ السلطان سليم اللبناني أيام الرئيس بشارة الخوري قد يكون يشبهه أيضاً)، كل من يعترض طريقه للوصول الى هدفه، من أعداء، ومن أهل البيت على السواء.



الجمهورية - مصطفى علوش

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

19 أيار 2020 08:29