المصدر:هاني حمود-النهار
كنت في العاشرة من عمري، عندما سمعتها بالفرنسية، من احد آبائنا اليسوعيين، في سيدة الجمهور، وأنا ابن العائلة المسلمة، المعتقدة أن في مقاعد الارساليات سلما اجتماعيا يمكن لأبنائها أن يرتقوه، إن هم احسنوا الاختيار...
لا أنسى كيف سارع دماغي المنشغل بالتكون إلى ترجمتها بأن من شأن معرفة الحقيقة أن تحررني. ومن ماذا؟ وبتت لأسابيع وأشهر أمام كل فكرة أو موقف اسأل نفسي: أهي الحقيقة؟ وهل زادتني حرية؟
ثم اندلعت حروب في حياتي السعيدة. أهلية محلية وخارجية. واندلعت هجرات. داخلية، من مدرسة إلى أخرى ومن المدينة إلى قرية داخل المدينة, ومن قرية المدينة إلى قرية الريف، ذهابا وايابا عدة مرات، وأخيرا من الوطن كله.
لم أعد أعرف أين هي الحقيقة في الحروب والهجرات. ثم لم أعد أبحث عنها، ولم أعد اسأل ما إذا كان شيء يحررني، ومن ماذا. كل ما تحررت منه، هو الاعتقاد أن إنجيل يوحنا لم يكتب إلا بالفرنسية. فاكتشفت أنه يقول، بالعربية: "وتعرفون الحق، والحق يحرركم"...
اكتشاف، اضطرني لإعادة حساباتي. لم تعد الحقيقة، هي التي تحرر... بل بات الحق هو الباب للحرية. ما زاد اسئلتي سؤالا، لا بل مسائل: في الحق حقيقة، طبعا. لكن فيه ما هو أكثر، رغم أن كلمة حقيقة أطول، وبقي سؤال: ترى أي عبودية، تلك التي منها الحق يحررني؟
ثم عاد القدر اللبناني يتقاذفني بركلات عابرة البحار والمحيطات والقارات، ذهابا وايابا، أيضا. ومع كل ركلة كان بعض من هذه الأسئلة يغادرني، ثم اختفت تماما حقا وحقيقة وحرية...
إلى أن كانت احدى أكثر ركلات القدر توفيقا، تلك التي وضعتني في طريق الرئيس الشهيد رفيق الحريري، سائرا إلى جانبه لسنوات عديدة. كان أمورا عديدة، ومن ضمن ما كان كثيرا، ولا مجال لتفصيله هنا، كان رفيق الحريري رجل حقيقة، لنفسه وللآخرين، متمسكا بالحق لوطنه ولأمته، عاملا لحرية اللبنانيين، لا بل عتقهم من كل العبوديات الظاهر منها والمستتر..
واليوم، وبعد 15 عام على اغتياله، بمناسبة الحكم على قتلته، يعود الحق والحقيقة إلى واجهة المسائل. هذه المرة، سأصغي جيدا، كما سيصغي اكثر اللبنانيين، وبأكثر من لغة، علنا نسمع طريق الحرية، لكل أسرى الوطن الأسير.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.