لم يكن ما أعلنه الرئيس سعد الحريري في حواره التلفزيوني الخميس الفائت "المخاطرة" الأولى التي يخوضها منذ انخراطه في العمل السياسي عام 2005 . هي المخاطرة العاشرة أو أكثر.
قيادة المواجهة في وجه النظامين السوري والإيراني عقب اغتيال أبيه كانت مخاطرة.إصراره على اتخاذ حكومة الرئيس فؤاد السنيورة القرارين المتعلقين بشبكة الإتصالات التابعة لـ"حزب الله" مخاطرة.زيارة سوريا في عز المواجهة والتمسك بالمحكمة الدولية رغم الـ"سين سين" مخاطرة."ربط النزاع" مع "حزب الله" مخاطرة.. وصولاً إلى التسوية الرئاسية مع ميشال عون التي سماها الحريري نفسه"مخاطرة".
هو دائم البحث عن الخيارات الأصعب. شديد الهوَس بالمواجهات، تماماً كهَوَسه بمصارعة سمك "القرش" في قعر البحر، بخلاف الصورة التي يروّجها عنه خصومه و حلفاؤه معاً ، حتى إذا لاحت في الأفق أزمة مستعصية تقدّم الصفوف استعداداً لمواجهة باللحم الحي.
في مفكّرته موعد ثابت مع "الإنهيار"، كلما أطل برأسه سارع إلى منعه، وإذا وقع أعدّ العدّة لوقفه.
هو يعرف تماماً أن القوى السياسية في لبنان عصيّة على الإصلاح منذ الإستقلال، وأن آخر برهان على ذلك ما جرى مع والده في "باريس 2" العام 2002، ورغم ذلك قرّر المخاطرة ليس برصيده الشعبي و حسب (كما فعل في "مخاطرة" التسوية الرئاسية)، وإنما بمصيره السياسي هو نفسه.
كما يدرك تماماً أن ما يخوض غماره اليوم هو نسخة منقّحة عن إصلاحات مؤجلة منذ العام 2002، وعن مبادرة متطابقة مع تلك التي قادها الرئيس الراحل جاك شيراك، مع فارق وحيد أن الأخير اتصل بالرئيس السوري بشار الأسد طالباً منه الموافقة على "باريس 2" والضغط على الرئيس اللبناني إميل لحود لتسهيل تطبيقه، أما الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون فتواصل هو نفسه مع الرئيس اللبناني و مع كل رؤساء الكتل فرداً فرداً.
ورغم فشل مبادرتي 2002 و 2020، قرر سعد الحريري "المخاطرة" مرة أخرى لإعادة الروح إلى المبادرة الفرنسية.. وإلى اللبنانيين.
واحد فقط ربط مصيره السياسي بمصير البلد، قبل سعد الحريري ، هو الرئيس الراحل فؤاد شهاب، الذي قرّر اعتزال السياسة عندما هزَمه أعداء الإصلاح . أما الآخرون الذين تعاقبوا على مقاعد السياسة، على اختلافها منذ 1943 حتى اليوم، فربط كل منهم مصير البلد بمصيره هو.
هكذا قرأ اللبنانيون المقهورون والمظلومون والمشرّدون من بيوتهم المتبقية في أحياء بيروت كلام سعد الحريري الخميس الفائت. تلمّسوا بصيص أمل فقدوه،وضوءاً في آخر النفق بعد اللعنات المتناسلة التي حلّت بهم.
لم يخطر في بال اللبنانيين الذين تسمّروا أمام الشاشة "ميثاقية "من هنا أو أسماء الوزراء الجدد وإنتماءاتهم السياسية من هناك.انتزعوا جرعة أمل ممّن تلقّف "جرعة السم" .استعادوا الأمل في انخفاض سعر صرف الدولار وعودتهم إلى وظائفهم ووقف نزيف الهجرة الذي أصبح يتصدّر قائمة أحلامهم..وأحلامنا.
لم يفتْ المشاهدين أن من قرّر اللجوء إلى "الصولد" الأخير، يمشي في حقل ألغام من دون خوذة ولا دروع، سوى آمال المواطنين في الخروج من نفق الإنهيار. فكل التسويات التي كان ينعم بها لبنان من الداخل و من الخارج تبخّرت . الصراع الأميركي - الإيراني في ذروته، وكذلك الصراع العربي-الإيراني.
أما في الداخل فكل البتسويات السياسية سقطت أو ترنّحت ،بدءاً من "تفاهم مار مخايل" مروراً بـ"تفاهم معراب" وصولاً إلى التسوية الرئاسية.فيما تواجه التسوية الدستورية الأم (الطائف) الضربة تلو الأخرى، وآخرها الحديث عن "الفيدرالية" و"الإتجاه شرقاً"...
المبادرة الفرنسية تستحقّ المخاطرة الحريرية الجديدة لأنها الفرصة الأخيرة، لكن هل تنجح، أم أنها ستنضمّ إلى لائحة الإصلاحات المؤجلة، والدولة المؤجلة حتى إشعار آخر.. وهناك البكاء وصريف الأسنان؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.