- محمد السماك -
عندما انفجرت حركة الاحتجاجات الطلابية في فرنسا في عام 1968 لم يعتقد أحد انها سوف تتحول الى محطة بارزة في تاريخ فرنسا، وأوروبا، وحتى في تاريخ العالم. بدأ التحوّل بسقوط كبير فرنسا ومحرّرها الرئيس الجنرال شارل ديغول .
قبل عام من ذلك، عرف العالم حدثاً تغييرياً عميقاً وقع في الشرق الأوسط، فقد خسر العرب الحرب أمام اسرائيل التي احتلت الى جانب القدس ، الضفة الغربية وغزة وسيناء ، ومرتفعات الجولان . لم يغيّر هذا الواقع الحروب التي وقعت بعد ذلك (حرب 1973) إلا جزئياً.
وفي عام 1979 سقط نظام الشاه في إيران وتولى السلطة فيها الإمام الخميني الذي رفع شعار تصدير الثورة . ولا تزال عملية التصدير متواصلة من خلال المبدأ المستحدث بولاية الفقه.
وفي ذلك العام أيضاً انسحب الاتحاد السوفياتي من افغانستان وتركها لقمة سائغة في فم تنّين التطرف الاسلامي الذي صنعته المخابرات الأميركية.
كذلك وقّع الرئيس المصري الأسبق أنور السادات على معاهدة كمب دافيد مع مناحيم بيغن ليغير طبيعة الصراع العربي – الاسرائيلي، حتى وصلنا اليوم الى مرحلة التطبيع.
وفي عام 1989 وقع حدث أعاد صناعة العالم من جديد، وهو سقوط الاتحاد السوفايتي وتفتّته، وسقوط جدار برلين واستعادة ألمانيا لوحدتها، كأسس لصناعة الاتحاد الأوروبي.
وفي عام 2001، جرى العدوان على نيويورك (برجي التجارة) وواشنطن ( وزارة الدفاع) ، واتُهم الاسلام بالإرهاب . فكان الغزو الأميركي لأفغانستان ، ثم للعراق .. ولا تزال تداعيات هذا التحول الأميركي مستمرة حتى اليوم .. فقد اصبح اتهام الاسلام سياسة معادية للمسلمين وانتشرت ثقافة "الاسلاموفوبيا" في طول العالم وعرضه.
وفي الولايات المتحدة أدى اغتيال لوثر كينغ الى انطلاق حركة تحرير السود ، حتى وصل الى البيت الأبيض الرئيس السابق باراك أوباما.
وكان اغتيال الرئيس الأميركي جون كندي قد أدى الى اغتيال واقعي لمبدأ انتخاب كاثوليكي رئيساً للولايات المتحدة ، وهو الأمر الذي يشكل اليوم القاعدة الانتخابية للرئيس ترامب في وجه منافسه الكاثوليكي بايدن.
وقبل ذلك ، في عالمنا العربي ، أدى اغتيال الملك فيصل في العراق الى سقوط حلف بغداد (والى تولّي حزب البعث السلطة).
وأدى اغتيال الوحدة السورية – المصرية الى استيلاء جناح ثان للحزب على السلطة ، ومن ثم الى تصحيح عملية الاستيلاء برئاسة حافظ الأسد.
كذلك أدى اغتيال ياسر عرفات الى سقوط اتفاق أوسلو ، والى انقسام السلطة الفلسطينية بين غزة ورام الله.
وأدى اغتيال معمر القذافي الى انهيار الدولة الليبية والى تحوّلها الى مسرح لتصفية الحسابات الاقليمية والدولية ، كما كان عليه حال لبنان ، حتى التوصل الى اتفاق الطائف (1989).
وأطلق اغتيال رفيق الحريري في بيروت شرارة الوحدة الوطنية في وجه الهيمنة السورية السياسية والعسكرية ، وربما يكون ذلك قد شجع على اشعال عود ثقاب التمرد السوري الذي فتح أبواب جهنم على سورية من كل حدب وصوب.
يعلّمنا التاريخ ان اغتيال ولي عهد النمسا في مدينة سيراجيفو (البوسنة اليوم) كان الشرارة التي اضرمت نار الحرب العالمية الأولى (1914) التي التهمت الملايين من البشر.
ويعلّمنا التاريخ أيضاً ان كل البدايات التاريخية تبدأ بحركة اصبع، سواء للضغط على الزناد لإطلاق الرصاصة الأولى .. أو للتوقيع على وثيقة سلام ، أو تطبيع أو حتى ترسيم حدود.
ويعلّمنا التاريخ كذلك انه أيا كان اتجاه حركة الاصبع فان نتائجها تتجاوز اليد ، والذراع .. لتصيب الجسم كله!
فالقضية العربية بعد التوقيع على كمب دافيد ليست كما قبلها.
وهي بعد اتفاقيات التطبيع ستكون شيئاً آخر أيضاً.
وحتى تخطيط الحدود لن يكون تفاهماً بلا وعود.
إن كل حركات التغيير، بما فيها حركة 17 تشرين الأول في لبنان ، تبدأ صغيرة ثم تكبر ، مثلها مثل حصوة صغيرة ألقيت في بركة ماء . فالدائرة التي تحدثها تتسع، وتواصل اتساعها حتى تصل الى أقصى الحدود.
هكذا كان شأن كل الاحداث الكبرى في العالم . فكل المتغيرات العميقة التي عصفت به بدأت بحركة صغيرة .. ثم اتسعت دائرتها.
يتعذر على أيٍ كان التحكم في حركة اتساع دائرة الحدث الأول بحيث يبدو كالمتوهم القابض على الريح وانه يحرك طواحينها بإشارة منه.
روى الأديب الاسباني سيرفانتس قصة دونكيشوت عن تجربة ذاتية. سيرفانتس كان جندياً في جيش البابا في القرون الوسطى عندما وقع في أسر الجزائريين . وعندما أُطلق سراحه بموجب تسوية تبادل الأسرى ، تفرّغ للعبادة في أحد الأديرة خارج مدريد حيث كتب الرواية التي تعكس تجربته الشخصية.
فما أقل أمثال سيرفانتس، وما أكثر الدونكيشوتيين
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.