كتبت هدى علاء الدين
ما بين 29 تشرين الأول 2019 و22 تشرين الأول 2020، سنة إلا بضعة أيام قضاها الرئيس سعد الحريري بإرادته التامة خارج الحكم، ليعود اليوم وبكامل إرادته أيضاً للإمساك من جديد بزمام الأمور مبقياً على أمل الفرصة الأخيرة لإنقاذ لبنان. الحريري الذي أعطى نفسه وكل من عارض توليه رئاسة الحكومة بحجة الرئيس الاختصاصي فرصة الابتعاد عن الحكم تلبية لرغبة الشارع، أيقن أن هذه الفرصة لم تحقق مرادها، لا بل زاد ابتعاده عن المشهد السياسي من حدة الأزمات وتفاقمها. فقد دفع لبنان غالياً ثمن خروجه من الحكم، فما بين ما بين تشرين الاستقالة وتشرين العودة أزمات وصعوبات وتحديات جمة خنقت لبنان واللبنانيين وفاقت قدرتهما على تحملها.
عام من المصائب الاقتصادية والمالية والنقدية برزت معالمها مع أزمة سيولة حادة وتهافت المودعين على سحب ودائعهم وتحويلها إلى الخارج أو تخزينها ورقياً في المنازل بسبب فقدان الثقة وغياب الاستقرار السياسي، ليشهد لبنان في ظل تراجع الاستهلاك والاستثمار انكماشاً اقتصادياً حاداً وتسجيل معدل نمو سلبي وانخفاض ملحوظ في الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع قيمة الدين العام إلى الناتج إلى حوالي 178% أواخر العام 2019. شكل هذا الوضع الاقتصادي الهش عامل ضغط على سعر صرف الليرة اللبنانية التي فقدت أكثر من 80% من قيمتها، رافقها وضع قيود من المصارف على السحوبات والتحويلات الخارجية، تبعها في 7 آذار إعلان حكومة حسان دياب للمرة الأولى تعليق دفع سندات اليوروبوندز المستحقة والتي بلغت قيمتها 1.2 مليار دولار بذريعة الحفاظ على ما تبقى من احتياطي المصرف المركزي المستنزف، على أن تليها مباشرة الحكومة عملية التفاوض مع دائنيها من أجل إعادة هيكلة الدين العام. وفي إطار خطة النهوض الاقتصادي المزمعة، قدمت الحكومة نسختين من خطتها الاقتصادية، لكنها وقعت في فخ الخسائر والأرقام المالية المتناقضة مع المصارف والمصرف المركزي، الامر الذي أدى إلى توقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
ومع فشل حكومة دياب في إجراء أي من الاصلاحات التي تمنح الثقة للمجتمع الدولي وانعدام السيولة بالعملة الاجنبية، استمر تراجع احتياطات مصرف لبنان بسبب تمويل السلع الأساسية، وبدأ خطر رفع الدعم يلوح في الأفق. ومع استقالة حكومة دياب جراء إنفجار المرفأ ودخول لبنان مجدداً في مرحلة تصريف الأعمال وإفشال المبادرة الفرنسية واعتذار الرئيس المكلف مصطفى أديب عن تشكيل الحكومة، كان لا بدّ من رجل وطني يدرك مدى خطورة المسار الانحداري السريع ويأخذ على عاتقه إعادة الثقة بعدما خسر لبنان باستقالته عام 2019، كل عوامل الثقة بالاقتصاد.
اليوم، لا يحتاج سعد الحريري إلى فرصة بل هو بحد ذاته فرصة، لا سيما وأنه يمتلك المفاتيح اللازمة لمعالجة الأزمة الإقتصادية:
- أولاً: يشكل اسمه عامل ثقة ومصدر اطمئنان للمستثمرين وللأسواق المالية اللبنانية، وهو ما انعكس جلياً على تحسن في سعر صرف الدولار لمجرّد تكليفه تشكيل حكومة إنقاذية.
- ثانياً: يمتلك شبكة علاقات عربية ودولية قادرة على مد لبنان بالمساعدات المادية وعلى جذب واستقطاب الاستثمارات التي تضخ السيولة اللازمة من العملة الأجنبية.
- ثالثاً: يستطيع فصل المسار السياسي عن المسار الاقتصادي، كما أن وجوده على الساحة السياسية يخفف من الضغوطات والاحتقان التي تلقي بثقلها بشكل سلبي على الاقتصاد.
- رابعاً: لديه القدرة على ترميم ما تصدع من علاقات لبنان مع الدول العربية والخليجية والدولية وإعادتها إلى مجراها الطبيعي وإدخال لبنان مجدداً إلى الأسواق العربية والمالية العالمية وتهيئة المناخ المناسب وحشد الدول المانحة لعقد مؤتمرات دولبة داعمة.
- خامساً: إن الحريري ليس بلاعب سياسي فقط بل لاعب اقتصادي ماهر قادر على خلق صدمات إيجابية والذهاب بعيداً في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي من أجل إعادة الثقة بلبنان التي تسهم بشكل مباشر في إعادة ثقة اللبنانيين بوطنهم وبقطاعهم المصرفي وإعادة أموالهم المودعة فيه.
إذاً، تشكل المبادرة الفرنسية وورقتها الإصلاحية خارطة طريق لمسار عمل الحكومة المقبلة، وهي بحسب الرئيس سعد الحريري مزيجاً من بنود مؤتمر سيدر والاصلاحات التي نصت عليها مؤتمرات باريس 1 و 2 و 3 والتي بات القاصي والداني يدرك من ولماذا تم تعطيلها. إلى كل المزايدين من تكليف الرئيس الحريري، كفاكم عبثاً بمصير لبنان الذي لم يعد يمتلك مطلقاً ترف الوقت، ارجعوا إلى ضمائركم مرة واحدة فقط وضعوا نصب أعينكم مصلحة لبنان واللبنانيين فقط وكفاكم شعارات شعبوية لا تعيد الثقة ولا تحد من الانهيار ولا تلجم سعر صرف الدولار.
إن غياب الرئيس سعد الحريري عن الحكم كان تلقائياً بمثابة غياب الثقة في الاقتصاد والأمل في الإصلاح، تماماً كما غابت الثقة عن لبنان بعد إقصاء والده الشهيد رفيق الحريري من الحكم ومن ثم اغتياله، حيث شهد لبنان في الفترة التي تلت جريمة 14 شباط الطلب بكثافة على الدولار وخروج الرساميل وتراجع في احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية بنحو 4 مليار دولار. وكما أعاد رفيق الحريري النهوص بلبنان ووضعه على الخارطة الاقتصادية العربية والعالمية عام 1992، محوّلاً بيروت إلى عاصمة للؤتمرات والاستثمارات ومدينة جذب لرجال الأعمال والشركات وريادة الأعمال، يستطيع اليوم سعد الحريري بفضل علاقاته الدولية الواسعة أن يوقف الانهيار الاقتصادي والمالي عبر تنفيذ الإصلاحات المطلوبة وأن يعيد إعمار مرفأ بيروت وشوارعها وأحياءها المنكوبة وأن يعيد الثقة للبنان واللبنانيين.
يقال إن رأس المال جبان وغالباً ما يبحث عن الثقة والأمان، لذا إن كنتم تبحثون عن الثقة والأمان الاقتصادي عليكم أن تبحثوا عن سعد الحريري... فلا اقتصاد دون ثقة ولا ثقة دون سعد الحريري... فالحريري اختصاصه الثقة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.