بول شاؤول

5 تشرين الثاني 2020 | 22:17

كتب بول شاوول

‏150 عاماً على رحيل الروائي شارل ديكنز.. شكسبير الرواية الفكتورية

‏150 عاماً على رحيل الروائي شارل ديكنز.. شكسبير الرواية الفكتورية

إنها الذكرى المائة والخمسون لرحيل الروائي الإنكليزي شارلز ديكنز، التي تصادف لسوء حظه ‏أزمة كورونا التي اجتاحت العالم، وشغلته عما سواها.‏

يبدو أن هناك سوء تفاهم أو قراءة لهذا الرجل خارج بلاده، أو خصوصاً في فرنسا وأميركا... ‏هل قرأوه قراءة نقدية، هل قرأوا كل أعماله، بل هل تناولوه بأفكار مسبقة، فهو من مناخات ‏القرن التاسع عشر، وكانت فرنسا وروسيا وكذلك اسبانيا تتصدر الاجتراحات الروائية ‏‏(وخصوصاً الشعرية) عصر دوستويفسكي وغوغول وتولستوي وبوشكين في روسيا، وفلوبير، ‏وإميل زولا وبلزاك في فرنسا... وتمت بينها أشكال عدة من التواصل، والتماهي، لكن لماذا لم ‏يُعامَل ديكنز معاملة هؤلاء الكبار ذاتها؟! وإنما بشيء من الخفة والإزدراء كأن يروا فيه نموذجاً ‏دونياً لزولا، أو لقاء عابراً ببلزاك، بل إن بعضهم اعتبره (حتى في القرن العشرين) روائياً ‏للأطفال أو للفتيان، ربما لأنهم توقفوا عند روايته الأولى "أوليفر تويست" (التي اقتبست هوليود ‏منها فيلماً نال نجاحاً كبيراً) وهو ليس من أفضل أعماله. سنحاول مقاربة هذا الذي يعتبر في ‏البلاد الأنغلوساكسونية "نصف إله" ‏

فهو أولاً ألّف أعمالاً روائية كبرى، جعلته أكبر روائي في العصر الفكتوري، ومنها "مذكرات ‏نادي بيكويك" و "حياة ومغامرات نيكولا تيكلبي" و "المتجر القديم الغامض" و "حياة ومغامرات ‏شارلوت مالرمن" ثم "ترنيمة عيد الميلاد" و "ديفيد كوبرفيلد" و "نزل كليب" و "دريت الصغير" ‏ثم أهم رواياته "قصة مدينتين"...‏

ونرى أنه جمع في كل هذه الأعمال كوكبة من الشخصيات الدامغة المؤثرة المتناقضة المتصارعة ‏فهو يلتقي في تحليله الاجتماعي وزولا في توغله في هوامش المدينة، وناسها، وفقرائها، وصولاً ‏إلى الطبقات العليا، كل ذلك، بحس نقدي اجتماعي حاد، للواقع المزري وللظلم الاجتماعي، من ‏دون أن ننسى أنه واجه في أعماله ظواهر العبودية (قبل غيره) لتتنوع أعماله وآراءه بين التفاؤل ‏وبين السوداوية. عاش عصره بكل تماثلاته، ومهد للرواية البوليسية الأدبية (التي أدرجت قبل ‏سنوات كنوع أدبي في الغرب).‏

صحيح أنه كاتب كلاسيكي (تماماً كما كان معظم روائيي ذلك العصر) إلا أنه أول من قدم رواية ‏فريدة من نوعها ولم يسبقه أحد إليها وهي "ديفيد كوبرفيلد" التي وضع فيها سيرة كاملة، ‏بتفاصيلها لشخصية في إطار سردي محض، ونجد أن رواية أخرى تسبق عصرها في بنيتها ‏‏"المركبة" المعقدة "نزل كليب" يعالج فيها الفساد المستشري عند المسؤولين والموظفين، ‏والطبقات الحاكمة، ليلتقي المطالبين بالتغيير، لكن ليس بالثورات والعنف. أما رواية "دوريت ‏الصغيرة" فهو ينقل فيها انهيار القيم الاجتماعية إزاء وحشية العالم، وتبقى "قصة مدينتين" ‏التاريخية، التي جرت أحداثها في زمن الثورة الفرنسية، وروايته الأخرى "الآمال الكبيرة" من ‏أعظم إنجازاته. لدى قيامه برحلات إلى أميركا، كتب انطباعات سلبية لثقافتها المادية مديناً ‏العبودية، والتمييز العنصري، ما أثار غضباً عارماً عليه، ولم يفوت زيارة إيطاليا، التي كتب ‏عنها نصوصاً رائعة. ‏

ديكنز منفتح لكن ليس بالطريقة "السياحية" وناقد ليس بالنبرة "الثورية"، ومحافظ ليس بالطريقة ‏‏"التقليدية". وهو، إلى كونه روائياً، عمل في الصحافة، كمراسل، وعمل بتقديم مسرحيات هزلية، ‏في مجلات وصحف مختلفة باسم مستعار "بوز".ولتمتعه بحسٍّ شعبي مرهف، الذي تجسد في ‏أعماله، كرّمه الجمهور في حياته بطريقة لم تصب أحداً سواه في إنكلترا. شخصية كارزماتية، ‏جعلته يخترق الذائقة المعممة من دون تنازلات. وهذا ما جعله يحيي "أمسيات" أو لقاءات يقرأ ‏فيها من أعماله، بين جمهور غفير. وهذا ما لم نجده لا عند بلزاك ولا زولا، ولا فلوبير، ولا ‏دوستويفسكي... ‏

لكن، إذا عدنا إلى القرن العشرين، نجد أن العديد من أعماله اقتبست أفلاماً سينمائية، بإنتاجات ‏ضخمة وبنجاحات منقطعة النظير، فهو أكثر كاتب أبكى الجمهور، وأكثرهم أيضاً من أضحكه ‏بمقطوعاته الهزلية النقدية الساخرة.‏

ومقابل الإهمال الذي واجهته أعماله في بعض أوروبا وخصوصاً فرنسا، إلا أن معظم رواياته ‏ترجمت إلى العربية، وشقت طريقها إلى القارئ العربي. بل بعضهم رأى فيه نجيب محفوظ ‏الإنكليز، لتقارب الأجواء الشعبية، وحتى السياسية (محفوظ كاتب نقدي اجتماعي كبير) ‏والأسلوبية أيضاً: فمحفوظ بقي كاتباً كلاسيكياً، وكذلك ديكنز، ومحفوظ حلل بعمق المجتمع ‏المصري، بدقة متناهية، من دون أن ننسى أن الإثنين ضمنا معالجاتهما الروائية. بحسٍ سياسيٍ ‏نقديٍ واسعٍ، مطالبين بالإصلاح لكن ليس بالعنف والفوضى، قد يختلف عنه محفوظ بتأملاته ‏الفلسفية "أولاد حارتنا" و "ثرثرة فوق النيل"...‏

ونظن أن السينما المصرية عرفت ديكنز واقتبست بعض أعماله، وقامت بتصوير المظالم ‏الاجتماعية والفقر وعدم المساواة... نتذكر فيلم "أولاد الشوارع" ليوسف وهبة، التي تتماهى فيه ‏برواية "أوليفر تويست"...إنه كما وصف نفسه في أميركا "شكسبير الرواية الفكتورية"...‏

عام 1865 تعرض لحادث قطار ولم يتعافَ منه كلياً، وبرغم وضعه الصحي الهش استمر ‏بالتجوال حتى عام 1870. وفي التاسع من تموز (يوليو) 1870 أصيب بسكتة دماغية ورحل ‏عن عمر 58 عاماً.‏

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

بول شاؤول

5 تشرين الثاني 2020 22:17