إنها الذكرى المائة والخمسون لرحيل الروائي الإنكليزي شارلز ديكنز، التي تصادف لسوء حظه أزمة كورونا التي اجتاحت العالم، وشغلته عما سواها.
يبدو أن هناك سوء تفاهم أو قراءة لهذا الرجل خارج بلاده، أو خصوصاً في فرنسا وأميركا... هل قرأوه قراءة نقدية، هل قرأوا كل أعماله، بل هل تناولوه بأفكار مسبقة، فهو من مناخات القرن التاسع عشر، وكانت فرنسا وروسيا وكذلك اسبانيا تتصدر الاجتراحات الروائية (وخصوصاً الشعرية) عصر دوستويفسكي وغوغول وتولستوي وبوشكين في روسيا، وفلوبير، وإميل زولا وبلزاك في فرنسا... وتمت بينها أشكال عدة من التواصل، والتماهي، لكن لماذا لم يُعامَل ديكنز معاملة هؤلاء الكبار ذاتها؟! وإنما بشيء من الخفة والإزدراء كأن يروا فيه نموذجاً دونياً لزولا، أو لقاء عابراً ببلزاك، بل إن بعضهم اعتبره (حتى في القرن العشرين) روائياً للأطفال أو للفتيان، ربما لأنهم توقفوا عند روايته الأولى "أوليفر تويست" (التي اقتبست هوليود منها فيلماً نال نجاحاً كبيراً) وهو ليس من أفضل أعماله. سنحاول مقاربة هذا الذي يعتبر في البلاد الأنغلوساكسونية "نصف إله"
فهو أولاً ألّف أعمالاً روائية كبرى، جعلته أكبر روائي في العصر الفكتوري، ومنها "مذكرات نادي بيكويك" و "حياة ومغامرات نيكولا تيكلبي" و "المتجر القديم الغامض" و "حياة ومغامرات شارلوت مالرمن" ثم "ترنيمة عيد الميلاد" و "ديفيد كوبرفيلد" و "نزل كليب" و "دريت الصغير" ثم أهم رواياته "قصة مدينتين"...
ونرى أنه جمع في كل هذه الأعمال كوكبة من الشخصيات الدامغة المؤثرة المتناقضة المتصارعة فهو يلتقي في تحليله الاجتماعي وزولا في توغله في هوامش المدينة، وناسها، وفقرائها، وصولاً إلى الطبقات العليا، كل ذلك، بحس نقدي اجتماعي حاد، للواقع المزري وللظلم الاجتماعي، من دون أن ننسى أنه واجه في أعماله ظواهر العبودية (قبل غيره) لتتنوع أعماله وآراءه بين التفاؤل وبين السوداوية. عاش عصره بكل تماثلاته، ومهد للرواية البوليسية الأدبية (التي أدرجت قبل سنوات كنوع أدبي في الغرب).
صحيح أنه كاتب كلاسيكي (تماماً كما كان معظم روائيي ذلك العصر) إلا أنه أول من قدم رواية فريدة من نوعها ولم يسبقه أحد إليها وهي "ديفيد كوبرفيلد" التي وضع فيها سيرة كاملة، بتفاصيلها لشخصية في إطار سردي محض، ونجد أن رواية أخرى تسبق عصرها في بنيتها "المركبة" المعقدة "نزل كليب" يعالج فيها الفساد المستشري عند المسؤولين والموظفين، والطبقات الحاكمة، ليلتقي المطالبين بالتغيير، لكن ليس بالثورات والعنف. أما رواية "دوريت الصغيرة" فهو ينقل فيها انهيار القيم الاجتماعية إزاء وحشية العالم، وتبقى "قصة مدينتين" التاريخية، التي جرت أحداثها في زمن الثورة الفرنسية، وروايته الأخرى "الآمال الكبيرة" من أعظم إنجازاته. لدى قيامه برحلات إلى أميركا، كتب انطباعات سلبية لثقافتها المادية مديناً العبودية، والتمييز العنصري، ما أثار غضباً عارماً عليه، ولم يفوت زيارة إيطاليا، التي كتب عنها نصوصاً رائعة.
ديكنز منفتح لكن ليس بالطريقة "السياحية" وناقد ليس بالنبرة "الثورية"، ومحافظ ليس بالطريقة "التقليدية". وهو، إلى كونه روائياً، عمل في الصحافة، كمراسل، وعمل بتقديم مسرحيات هزلية، في مجلات وصحف مختلفة باسم مستعار "بوز".ولتمتعه بحسٍّ شعبي مرهف، الذي تجسد في أعماله، كرّمه الجمهور في حياته بطريقة لم تصب أحداً سواه في إنكلترا. شخصية كارزماتية، جعلته يخترق الذائقة المعممة من دون تنازلات. وهذا ما جعله يحيي "أمسيات" أو لقاءات يقرأ فيها من أعماله، بين جمهور غفير. وهذا ما لم نجده لا عند بلزاك ولا زولا، ولا فلوبير، ولا دوستويفسكي...
لكن، إذا عدنا إلى القرن العشرين، نجد أن العديد من أعماله اقتبست أفلاماً سينمائية، بإنتاجات ضخمة وبنجاحات منقطعة النظير، فهو أكثر كاتب أبكى الجمهور، وأكثرهم أيضاً من أضحكه بمقطوعاته الهزلية النقدية الساخرة.
ومقابل الإهمال الذي واجهته أعماله في بعض أوروبا وخصوصاً فرنسا، إلا أن معظم رواياته ترجمت إلى العربية، وشقت طريقها إلى القارئ العربي. بل بعضهم رأى فيه نجيب محفوظ الإنكليز، لتقارب الأجواء الشعبية، وحتى السياسية (محفوظ كاتب نقدي اجتماعي كبير) والأسلوبية أيضاً: فمحفوظ بقي كاتباً كلاسيكياً، وكذلك ديكنز، ومحفوظ حلل بعمق المجتمع المصري، بدقة متناهية، من دون أن ننسى أن الإثنين ضمنا معالجاتهما الروائية. بحسٍ سياسيٍ نقديٍ واسعٍ، مطالبين بالإصلاح لكن ليس بالعنف والفوضى، قد يختلف عنه محفوظ بتأملاته الفلسفية "أولاد حارتنا" و "ثرثرة فوق النيل"...
ونظن أن السينما المصرية عرفت ديكنز واقتبست بعض أعماله، وقامت بتصوير المظالم الاجتماعية والفقر وعدم المساواة... نتذكر فيلم "أولاد الشوارع" ليوسف وهبة، التي تتماهى فيه برواية "أوليفر تويست"...إنه كما وصف نفسه في أميركا "شكسبير الرواية الفكتورية"...
عام 1865 تعرض لحادث قطار ولم يتعافَ منه كلياً، وبرغم وضعه الصحي الهش استمر بالتجوال حتى عام 1870. وفي التاسع من تموز (يوليو) 1870 أصيب بسكتة دماغية ورحل عن عمر 58 عاماً.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.