كتب خالد صالح:
كل يوم .. هو يوم محمد شطح ..
كان المطلوب أن نضع هذا الإسم على رف النسيان، ونقلع نهائيًا عن ذكره في مجالسنا وحواراتنا ونقاشاتنا الحادة منها والهادئة، لأن اسم محمد شطح كان كفيلًا بـ " دمغ " أفكارنا التحررية بأبعادٍ لم نكن لنراها لولا أن سلّط هو الضوء عليها ..
لسوء حظ " محمد شطح " مروره مصادفة صباح ذلك اليوم في طريق بمحاذاة بيت الوسط، فانفجرت تلك السيارة المفخخة ويذهب ضحيتها، والمطلوب أن ننساه كأننا ننسى أحد الأقارب الأبعدين الذي وافته المنية وهو على فراشه، علينا ألا نلتفت لهذه الشخصية الأكاديمية والمثقفة، الهادئة وغير الاستفزازية، وأن نرفض فكرة " شطبه " من المعادلة، على قاعدة إسقاط حق المقتول في البوح عن أفكاره..
لسوء حظ " محمد شطح " أن العبوة التي زرعها في " تغريدته " الأخيرة انفجرت فيه، وأن رصاصات " رسالته الأخيرة " للرئيس الإيراني نالت من جسده بشكل إرتدادي، وأن تاريخ 27 كانون الأول 2013 كان التاريخ الفعلي لنهاية 14 آذار " سريريا "، والتي لم يتبقَّ منها سوى جمهور تائه وحالم يبكي على الأطلال ..
كانت آخر كلماته تغريدة على موقع تويتر قال فيها " حزب الله يُهوّل ويضغط ليصل إلى ما كان النظام السوري قد فرضه لمدة 15 عامًا، تخلّي الدولة له عن دورها وقرارها السيادي في الأمن والسياسة الخارجية "، ثم اغتيل بعد ساعتين على هذه التدوينة بانفجار سيارة مفخخة للمصادفة مرّ بجانبها صباح ذلك اليوم ..
محمد شطح الذي جاء إلى السياسة من رحم المال والاقتصاد، كان معروفًا باعتداله وثقافته الواسعة وبتولّيه العلاقات الخارجية في " تيار المستقبل "، ويجب أن يُنظر إلى اغتياله في سياق موقعه ودوره الاستشاري والديبلوماسي، فالضربة كانت موجّهة أولًا إلى الرئيس سعد الحريري بما يمثله وطنيا وسنيًّا ولأنه الشخصية الرئيسية في قوى 14 آذار بهدف إضعافه، لأن شطح من الحلقة القيادية الضيقة المحيطة بالحريري، كما أنها كانت موجّهة الى وظيفته الديبلوماسية وعلاقاته المميزة ببعض الدول العربية والأجنبية التي يهمها مصير هذا البلد ..
ولسوء حظ لبنان أن اغتيال محمد شطح أدخله في مرحلة شديدة التعقيد تقارب في مخاطرها ودقتها المرحلة السياسية التي أعقبت اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، واغتياله أكد أن لبنان مقبل على جولة جديدة من التشدّد والتشنّج لا مكان للاعتدال فيها، وطرح جملة من الأسئلة الدقيقة حول الأهداف السياسية للجريمة وفي مقدمها، هل هي محاولة جديدة لإشعال الفتنة المذهبية في لبنان وإثارة الفوضى فيه، بعدما فشلت المحاولات السابقة في جر البلاد إلها ؟ ..
لم يأتِ استهداف شطح مصادفة أو من فراغ، بل وقع الاختيار عليه لما يمثله من رجل " العقل والحوار "، وشكّل تحدّيًا للقيادة السياسية في لبنان، لاسيما أنه رجل المهمّات الصعبة لدخول الأطر الحوارية التي تجهد للتخفيف من حدة الانقسام الداخلي، ويبحث دومًا عن منافذ لمعالجة الأزمة القائمة، شخصية تملك منهجية رفيعة المستوى تؤمن بالحوار والتواصل بعيدًا عن أي اختلاف سياسي قائم ..
لسوء حظ لبنان في هذه المرحلة تحديدًا أن محمد شطح ليس بيننا، في ظل التأزم السياسي والكباش القاسي حول ملف الحكومة، لأن اغتياله أفقد لبنان شخصية دينامية تقرأ الأمور باستشراف فريد وعميق، وقاردة على اجتراح الحلول من لا شيء، فاستهدافه كان رسالة تحمل مضامين خطيرة مباشرة للرئيس سعد الحريري لأنه رمز الاعتدال في لبنان، في محاولة لإرغامه على تحديد خياراته السياسية، فبعد شطح يختلف عما قبله تمامًا ..
كان محمد شطح الرقم 11 في سلسلة الاغتيالات التي استهدفت قوى 14 آذار، لهذا نعاه الرئيس الحريري بالقول : " المتهمون بالنسبة لنا وحتى إشعار آخر هم أنفسهم الذين يتهربون من وجه العدالة الدولية ويرفضون المثول أمام المحكمة الدولية، إنهم أنفسهم الذين يفتحون نوافذ الشر والفوضى على لبنان واللبنانيين ويستدرجون الحرائق الاقليمية إلى لبيت الوطني "، لم يكن من الممكن قراءة هدف التفجير سوى بأنه رسالة دموية أخرى له، في ساحة تحكمها قوانين صراع معسكرين إقليميين ودوليين يخوضان حروبًا باردة في ساحات، وملتهبة في أخرى ..
جاء اغتيال محمد شطح في سياق سياسي معيّن وواضح، فالقاتل واحد هو نفسه قاتل رفيق الحريري وسمير قصير وجبران تويني والوسامين الحسن وعيد، ولا يحتاج الأمر الى كثير من التأويل فهولاء الرجال كانت لديهم الرؤية الحقيقية لمشروع الدولة في لبنان، في مقابل مشروع آخر له حلفاء لا يهادنون الخصوم ..
لسوء حظنا جميعًا، أن اغتيال محمد شطح مزّق أحلامنا لأننا رأينا في هذا العمل الجبان اغتيالا للاعتدال، لأنه كان يشكل أحد الوجوه النخبوية المنفتحة والمعتدلة والمجرّبة، وصاحب باع طويل في العلاقات والخبرات الديبلوماسية والاقتصادية داخليا وخارجيا، والذين اغتالوه كانوا يريدون اغتيال لبنان وتمريغ أنف الدولة بالذل والضعف والفراغ ..
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.