زياد سامي عيتاني*
تتنافس شركات الأدوية العملاقة في التسابق على تسويق وترويج اللقاحات التي إبتكرتها للتحصن من جانحة "كورونا" الكونية، مع تواصل العمل الدؤوب على تطويره وزيادة فعاليته، بعدما أثبتت التجارب الأولية نجاحه، حيث يعول عليه في عودة الحياة في أنحاء العالم تدريجياً إلى طبيعتها، (بالتأكيد وبأسف شديد بإستثناء لبنان، الذي ما تزال سلطته المستهترة لحد "الجريمة المنظمة" تتخبط وتتراخى في التعاطي مع خطر الموت الداهم بكل خفة وبعشوائية وإرتجال، في وقت تفلت فيه الوباء الفتاك، وبات سحقه يحتاج إلى معجزة للتمكن من السيطرة على تداعياته الكارثية المأساوية!!!)...
**
ماهية اللقاح:
قبل التعمق والإسترسال في إستعراض تاريخ وظروف إختراع اللقاح للأمراض التي فتكت عبر التاريخ بملايين البشر، لا بد بداية أن نتعرف على ماهية اللقاح بشكل عام، فهو مستحضر بيولوجى، يقدم المناعة الفاعلة المكتسبة تجاه مرض فيروسي أو باكتيري معين، ويُصنع غالبا من الأشكال المُضَعفة أو المقتولة للجرثومة، أو من سمومها، وعليه يقوم هذا اللقاح بتحريض الجهاز المناعي الموجود فى جسم الإنسان ليتعرف على هذه الجرثومة، سواء كانت باكتيريا أو فيروسا، ثم يعمل على تدميرها، ويَترك اللقاح لدى الإنسان نسخة منه كي يستطيع الجهاز المناعي التعرف على الجرثومة ليحطمها بسهولة إذا هاجمته مرة أخرى.
**
•اللقاح مصطلحاً:
وكلمة «vaccine» أو «اللقاح» مشتقة من المصطلح «Variolae vaccinae»، أو «cowpo x» بالإنجليزية، و«جدري البقر» بالعربية، وقد أَطلق هذا الاسم الطبيب الإنجليزى إدوارد جينر Edward Jenner (1749ــ1823)، الذى لُقب بـ«أبو علم المناعة»؛ لأنه أول من اكتشف لقاحا لمرض الجدري (غير الجدري المائي الحالي)، ويقال إن عمَل جينر أنقذ حياة عدد هائل من الناس، فهو أكثر الأعمال التى أفادت البشرية، حيث إن وباء الجدرى كان أخطر الأمراض التى واجهت الإنسان، وحصد الملايين من الناس عبر العصور، كما أنه مرض قديم، وجِدَت آثاره فى بعض المُومياءات من عهد قدماء المصريين.
**
•الصينيون أبتكروا أول لقاح غير تقليدي من ألف سنة.
قصة التطعيم لم تبدأ بأول لقاح، والذي ابتكره الطبيب الإنجليزي أدوارد جانر كما أشرنا، بل بدأت هذه القصة مع تاريخ الامراض المعدية الطويل، وبالاخص مع استعمال مادة الجذري لتوفير مناعة من ذلك المرض، حيث توجد ادلة على أن الصينيين استخذموا اللقاح ضد الجذري حوالي ما يقرب من 1000 سنة من العهد الحالي، وذلك حينما اجتاح مرض الجدري العالم، إذ أثر ذلك على كل الحضارات والقبائل، مع غياب علاجٍ فعال، فمات الملايين يومياً، وتُرك الناجون مشوهين بالندوب العميقة، ومن هنا اكتسب مرض الجدري اسمه الآخر: "الوحش المبقع".
كذلك فإن بعض الدراسات تشير إلى أن التطعيم كان أيضاً ممارساً في كل من افريقيا وتركيا.
•توسع الأمبراطوريات نشرت الوباء عالماً:
ولعبت التجارة العالمية وتوسع الإمبراطوريات دورا كبيرا في نشر الجدري حول العالم. وكان المرض فتاكا، إلى درجة أنه يؤدي إلى وفاة نحو ثلث المصابين به من البالغين، وثمانية من بين كل 10 أطفال. وفي مستهل القرن الثامن عشر، كان المرض يودي بحياة نحو 400 ألف مصاب سنويا في أوروبا وحدها.
وكانت المرافئ أكثر عرضة للوباء، وفي عام 1721، تفشى الجدري في مدينة بوسطن الأمريكية وحصد أرواح ثمانية في المئة من سكانها. أما عن الناجين، فكان المرض يترك آثارا تلازمهم طيلة حياتهم، كالعمى والندوب المقززة.
ويقول ناجيرا: "عندما تسقط القشور، تترك ندوبا عميقة تشوه وجهك، إلى حد أن البعض آثروا الانتحار على العيش بهذه الندوب".
**
•"جينر يكتشف اللقاح بالصدفة:
بقي الوضع على هذه الحال من الخطورة البالغة التي هي أشبه بإبادة جماعية إلى أن تمكن الطبيب والجراح الإنجليزي إدوارد جينر من إكتشاف لقاح مضاد لهذا الوباء الفتاك.
فقد اكتشف إدوارد جينر بالمصادفة أن الإصابة بفيروس «جدرى البقر» تقى البشر من ويلات الإصابة بمرض الجدري الذى يصيب الإنسان، فكان قد علم، أثناء تدربه على مهنته كجراح صيدلى، فى مدينة بركلي البريطانية، عن قصة كانت شائعة فى المناطق الريفية، بأن عُمال الألبان لا يصابون بمرض الجدرى القاتل لأنهم يُصابون بجدرى البقر الذى له تأثير بسيط جدا على الإنسان، كما جاءته حلابة بقر في إحدى زياراتها لعيادته، تستشيره عن حالتها الصحية، وعند سؤالها إذا كانت أصيبت بالجدري من قبل، فأكدت له أنها تعرضت لجدري البقر، ولذلك لا تصاب بجدري البشر!!
لفت هذا الأمر انتباه الطبيب جينر، فبدأ يبحث فى خفايا هذا السر، واكتشف أن «جدرى البقر» نوعان، يشبه أحدهما الجدري الذى يصيب الإنسان، ومن هنا، جاءته فكرة التلقيح؛ ففى 14 مايو 1796 اختار الطبيب طفلا سليما يُدعى جيمس فيبس، كان عمره حوالى 8 سنوات، وقام بتلقيحه بفيروس «جدرى البقر»، استخلصه من قَيح إحدى فتيات حلابة البقر المصابة به، ولما نجا الطفل من التلقيح التجريبى لهذا الفيروس، ولم تظهر عليه أى أعراض مرضية، وسّع جينر دراساته، فبعد ستة أسابيع، تحديدا فى 1 يوليو 1796، قام بتلقيح هذا الصبي بفيروس الجدرى المميت، وتركه يُخالط المصابين بالمرض، فلاحظ أنه لم يُصب بأى أعراض.
وسُرعان ما انتشر لقاح جينر، وحل محل التجدير، وحصل على الثناء والتقدير من جميع أنحاء العالم- خاصة في عام 1803، حين أبحرت بعثة خاصة إلى الأمريكتين لتلقيح آلاف الأشخاص.
وفى 1798 أعلن أن لقاحه آمن للأطفال والبالغين، وفى 1801 تم تطعيم أكثر من مائة ألف شخص ضد المرض، وقامت منظمة الصحة العالمية، فى 1950، بحملة تطعيم عالمية إلى أن أعلنت استئصال الجدرى من العالم في عام 1980...
**
كانت هذه هى قصة أول لقاح فى تاريخ البشرية، ومن هذه البداية ظهرت عشرات اللقاحات فى أعوام 1880، وتطورت أساليب استخلاصها إلى أن ظهر الآن علم متكامل اسمه «علم المناعة» «immunity».
**
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.