كتب عاصم عبد الرحمن (*):
اهتزَّ الكونُ برمته ظهيرة يوم الإثنين ١٤ شباط ٢٠٠٥ إثر زلزال اغتيال كبيرٍ من لبنان خبِرَه العالم رجل الإعمار والعلم والحداثة، استطاع بصدقه أن يعبُرَ طوائف بلاده ومذاهبها، وبوطنيته أن يعبّر بصوت مدنها وبلداتها، فتخطى حدود البلاد صارخاً بصوت العرب أجمعين متربعاً على عرش قلوبهم ملكاً يشق طريق المستقبل بسيف العدل والسماح، ذاك الوجه الذي لطالما أطلَّ به سراجاً منيراً يهدي درب طلاب الحرية والعدالة مرسخاً حرية الإنسان وراسماً معالم عدالة مجتمعٍ ينشده كل حرٍ أبيّ.
بالحبِ غزا قلوبَ اللبنانيين على اختلاف مذاهبهم ومناطقهم، حتى عشقه من العرب مَنْ أبصر حلم الحياة في عينيه، ومَنْ قرأ كتاب المستقبل بين شفتيه اللتين لم تنطقا يوماً إلَّا بلسانٍ عربيٍ يشكو همَّ قضاياهم في أروقة غرف صناعة القرارات الأممية؛ ودماء فلسطين تسيل من جوارحه فلا تروي عطش الفؤاد لوطنٍ عربيٍ لا تفرقه حدودٌ اصطناعية وتجمعه مصائبٌ إنسانية...
مضى لبنان بمصابه الجلل يلملم جراحه الدامية في شوارع الذل التي خطتها غرابيبٌ سودٌ في ليلةٍ ظلماءَ متوحشةٍ يسامرها ذئابٌ لم تروي جوعها سنون افتراسٍ استلذت أنيابها نهش خيرات وطننا الحبيب ونخر عظام شعبنا الغريب في وطنٍ غُيّبَ عنه قسراً مَنْ تجرَّأ بلفظ كلمة "لا" في وجه سلطانٍ عثى فساداً بالجَورِ والظلم والبأساء.
سقط رفيق الحريري شهيد أولئك الأحرار الذين أُحرقت قلوبهم وكُبّلت عقولهم في سجن الوطن الكبير، ظناً منهم بأنهم أسكتوا ذاك الصوت الحقيق في وجه ذاك السلطان الجائر، فالخوف قضَّ مضاجعهم وأرعش أبدانهم فرفيق لبنان غدا رفيق العرب؛ ظنوا أن دماءه لو سُكبت لأخمدت نار التحرر الملتهبة في نفوس سكان كوكب الإنسانية فقتلوه وأخفضوا صوت ندائه، خرجت روحُ الرفيق من الجسد فهبت رياحاً حريريةً أثلجت قلوباً أفجعها الرحيل القاتل... صمَتَ رفيق الحريري؛ هدأت أنفاسه فغفا مبتسماً بين أحضان الثوار الذين صرخوا بالحرية والسيادة والإستقلال.
مذ ذاك الحين يستيقظ الرفيق من نومه كل صباح رفقة طلاب العلم؛ يملأ طموحه درب كل عامل؛ يرسم ابتسامةً على وجه طفلٍ يلهو؛ يضمد جراح كل متألم؛ ينظم قصيدة العشاق؛ يكتب حكاية وطنٍ؛ وطنٌ لن ينسى يوماً رفيقه الشهيد.
ستة عشر عاماً وعشاق الحرية يحيون ذكرى كبيرٍ في كل لحظة؛ في كل مكان؛ وحيث لا يدرون فنفحة الرفيق تأتيهم بغتةً على أجنحة الأمل بمستقبلٍ طريقه لا بدَّ لها أن تكون حريرية... ولأنهم طلاب مدرسته تراهم ينشرون العلم والمعرفة الأدب والأخلاق؛ تلك هي مدرسته؛ يملأون الدنيا بحكاياته فتحيا في نفوس المتحرقين شوقاً لحبر قلم حِكمته؛ يمسحون دمعة حزين يُسكتون صوت الأنين فيفوح عطر الياسمين وعندها يبتسم الرفيق من علياء شهادته فخوراً بحصاد زرعه وإشعاع حلمه...
نستيقظ كلنا برفيق الحريري كل صباح، فهل يا تُراه مات حقاً أم غفا حتماً؟ فالميت يرحل بجسده وروحه أما النائم فيغرق في بحر أحلامه كل ليلة.
ستة عشر عاماً والحكاية تستمر فصولاً والأبطال فيها يزرعون للحب والسلام حقولاً.
(*) المسؤول التنظيمي في منسقية الكورة-زغرتا-البترون في تيار "المستقبل"
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.