كتب خالد صالح:
الموتُ ليسَ وجعًا .. الفقدُ هو الوجعُ الأكبر ..
كم نفتقدُ "رفيقنا" ..
كم كان نادرًا في حضوره حتى حدود الدّهشة .. وكم صار نادرًا في غيابه أكثر ندرة من الدهشة ذاتها ..
نفتقدُه .. في زمنِ الثرثرة والصّخب الفارغ وهو الذي أعطى للصّمت القيمة الكبرى ..
نفتقدُ "رفيقنا" .. مثل طائر "الرّخّ" الفريد الذي أرخى جناحيه الهائلين على خارطة وطنٍ فظلّلاها، ومثل ربيعٍ واعدٍ ألقى بذوره في حقولِنا الجرداء ولم ينتظر ليرى البراعم تتفتّح ليطلّ الوطن السيد الحر الذي طالما حلم به وعمل من أجله ..
كلّهم علموا ويعلمون أن "رفيقنا" كان مختلفًا، أحبّوا فيه ما لا يستطيعون أن يكونوه، أمّا الذين خاصموه - وهو لا يعرف المخاصمة - فكرهوا فيه كونه مرآة تعكسُ لهم صورة لا يحبونها عن أنفسهم، وفيما كان يتصرّف كأنه نذر نفسَه حارسًا لبقاء الوطن وثوابته،السّيادة، الحرّيات، الديموقراطية والدّولة المدنية، الحياة الكريمة، كانوا يتبارون في المتاجرة بها، بل ذهبوا أبعد من هذا، كانوا ولا يزالون "غربان الحرب" الاهلية المستمرة وثقافتها المستشرية في أوصالنا، وهو كان عنوان السلام الاهلي الدائم ..
نفتقد "رفيقنا"، لأن هدوءَه حكمة، ورصانتَه سياسة، وحديثَه إسناد، وصمتَه قيمة عليا، ولأنّه في عليائِه يوقظُ فينا حنينًا إلى الوقوف أمام حضوره الأخّاذ وقامته المختلفة، الفارعة بلا ادّعاء، الصّارمة بلا عبوس، المؤمنة بلا تعصّب، السالكة في السياسة، بثقل الواثق، وصلابة المصيب، وشجاعة فريدة .. كلّ ذلك، برقة وخفة وإيحاء يشبه البوح ..
نفتقد "رفيقنا"، الحليفُ الممكن والخصمُ النبيل والندُّ المقنع، الرفيقُ الودود والصادقُ غير المتلون، صاحبُ الوصال وغير الممتهن للقطيعة، لبنانيته أساس رؤيته، عروبته مصدر علاقاته، وأخلاقياته ركيزة إدارته لسياسته، لم يكن رجلًا محبًّا للجدل والسفسطة، صاحبُ صدرٍ مشرّع لقَبول الآخر بالتماع قيمه ومبادئه، يتّسعُ له الزمان والمكان في وقت ضاقت على البقية حتى جدران قصورهم ..
نفتقدُ "رفيقنا"، ونفتقدُ فيه لغته الهادئة في زمن يمتهنُ فيه الغارقون في أوهامهم – الأقربون والأبعدون – لغة الكيد والشتيمة، كانت المجالس تضجّ به أينما حلّ، ترافقه العيون والقلوب كيفما مشى، كان حلمًا ولم يكن مشروعًا، فقتلوا أحلامنا، وقذفوا بنا في ظلمة داكنة، لاضوء نلمحه في آخر النفق ..
نفتقدُ "رفيقنا"، لأنك إن اختلفت معه، تحترمه .. دائمًا له مكان يتّسع لاستقباله، يدخلُه كأنّه منه، بطريقة مختلفة، وتتعاملُ معه على خلافك معه، كأنك في الحسرتين: حسرة الاقتراب الممتنع، وحسرة الافتراق المؤلم، كأنك تريدُ أن تزيحَ الخلاف معه، كي تكونا معًا ولا تكونا، هو في موقعه وأنت ضده، وتلتقيان على ودٍّ واحترامٍ ونبلٍ عظيم ..
نفتقدُ "رفيقنا"، لأنه كسرَ القاعدة القائلة "لبنان والديموقراطية ضدّان لا يلتقيان"، وزرعَ فينا بذورَ الرفض القاطع لـ "عسكرة البلد"، كان بارقة أملٍ تُرفرفُ في سماءِ الوطن، لدرجة أننا رأينا فيه "المعجزة" يومَ شحّ القدرُ باستيلاد المعجزات، لأن نصاعة الشفافية المفطور عليها جعلتنا نقف أمام أنموذجٍ من الصّعب تكراره ..
نفتقدُ "رفيقنا"، ابن البلد الإنسان الفريد في مثاليته، الذي لم ينسَ وطنه حتى في أحلك الأوقات وأمرّها عليه "استودع الله هذا البلد الحبيب لبنان وشعبه الطيب"، الكلمة الحقّة التي أشعلت النارَ في هشيم السياسة والسياسيين في هذا الوطن المعذّب، وستظلّ عبارته جمرًا تحت رماد أحلامنا المكسورة، تبحث عن رفيق آخر يعيد لنا براعم الآمان المفقود ..
لم يكن "رفيق الحريري" يُشبه أحدًا من رجالات السّياسة الذين سبقوه أو عاصروه، ليس من الذين يرهنون الوطن والمواطن لمشاريعهم الخاصة، كان البوصلة والمقياس، وحامل صكّ المصلحة الوطنية بلا أحقاد وبلا نعرات، مشبعًا بروح الوطن – الرسالة، "اللاطائفي" بامتياز في العُمق والأداء، يَقبلُ الخصوم كما يقبلُ الحلفاء بالأفعال وليس بالأقوال، كان "رفيق الحريري" الحلم الذي تمنيناه بعد سنوات الحرب العجاف، الرجل "المبدأ والثوابت" الذي لا يساوم على الدستور والقانون والمؤسسات ..
راهن "رفيق الحريري" على معادلة لم يسبقه إليها أحد "إزرع العلم تدفن بندقية"، لأنه آمن أن لغة الاقتتال أرهقت البلد، شاهدَ بأمّ العين "أطماع" القوى السياسية ومبارزاتهم على سحق القيم وتطويب أخطائهم على اعتبارها صوابًا مطلقًا، وعلى تكريس ارتهاناتهم على أنها أمجاد يضعونها في رصيد لبنان، لبنان الذي لم يستطع أحد منهم أن يضع تصورًا لمستقبله، باعوا أنفسهم ومستقبل أبنائهم لقاء موقع أو منصب أو كرسي فارغ ..
"رفيق الحريري" السياسي الشهم والمسؤول، الحلم الذي كان فعلًا جميلًا يوشك أن يتحقق، وكم يبدو اليوم الافق السياسي داكنًا، وكم تبدو الصورة سوداء والساحة في لبنان مجرّد مسرح لدونية الزعيق السياسي الوقح وفظاظة الدجّالين يرفلون بأجنحة الملائكة، ويرفعون عند الهيكل لافتة "سوق الأوقية" ..
قد نمضي عمرًا في الكتابة عن كل شيء، الأشخاص، الأحداث، السياسة وتعقيداتها، المال والأعمال، لكنك فجأة تشعر بالرهبة تجتاحك وأنت تقف أمام "رفيق الحريري"، الرجلُ الذي ينتمي إلى الوسطية "الفاخرة"، الوسطية التي تؤمن بذاتها وليس وسطية "مزيفة" تتلوّن بأصباغ المصالح، كان "رفيق الحريري" جيّاشًا للعواطف وماسحًا للمخاوف و .. عابرًا للطوائف ..
مثل قاربٍ فضيّ أبحرَ "رفيق الحريري"، تاركًا عند ساحل معشوقته "بيروت" قنديلًا منيرا، ووريثًا أصيلا، للباحثين عن وطن، وضوءًا وصلاة مثل فراشة حملت أحلامًا وبشارات الى قلوبٍ لاهثة ولاهفة، وتركَ وراءه أبجدية مسؤولية وحكم، ورسمَ معالمَ افقٍ جليّ وواضح، كم يحتاجُها هذا الوطن " الكسيح" عند مفترقات الحيرة والضياع ونحن في منطقة "اللاعودة" الموحشة ..
كنقطة الماء الصافية حفر "رفيقنا" اسمه في صخرة التاريخ ومشى .. فأتعب الذين من بعده !
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.