كتبت هدى علاء الدين:
بيقين المؤمن القانع وبضحكة الواثق والمظهر اللائق وبخطى الثابت مشى رفيق الحريري ملكاً نحو قدره، فأهدى فيض روحه لشهادةٍ اغتنت به وعشقت أمثاله.
بسطور كلماتها لن تجف مدادها، نقتطع حقبةً قاسيةً من تاريخ لبنان نتذكرها مع الرفيق:
أيقظتني شمس صباح 14 شباط 2005 الباكرة عند السادسة نشيطاً كعادتي ومعها استيقظت صحيفة نهاري التي تزاحمت فيها المواعيد، ومطمئناً اتجهت عند العاشرة إلى ساحة النجمة، إلا أن موعداً واحداً فاتني أن أُدونه، كانت يترصدني عند الواحدة إلا خمس.
أتعلم يا سعد، بأنه ما دار في ذهني أن يقظتي الباكرة هذه ستكون الأخيرة لي في الحياة، وأني سأوّدعها بعد ساعات، وما حسبت أنّ أيّ يدٍ مهما تطاولت سوف تودي بي إلى الممات، وأنّ طريق العودة التي سلكتها في بيروت التي عشقتها ودون أن أدري كنت أودّعها.
حانت لحظة الفراق يا بني... أتونٌ من جحيم فجّر موكبي، حرّق الرفاق والأصحاب، وصبغ بالنار والدم أنفساً وساحات. وها هو يوم الوداع، من دارتي التي أحببت في قريطم، خرج نعشي على الأكتاف محمولاً تتلاطمه أمواج أحبتي، هتفت بإسمي وأوقفت بزحفها مراراً تقدّمي، عيونها باكية، حناجرها نائحة، وقلوبها دامية. كنت أسمعها وأجيبها محاولاً ببسمتي المعهودة أن أهدّئ من روعها إلا أنها كانت في سخطها تائهة ولرحيلي فاقدة. كنت أراك تتقدمها وكأنك تحمل نعشي في قلبك لا على كتفيك، إلى أن ضمني وسط بيروت فكانت آخر دمعة لي حزناً على فراق وطن وعائلة، وأدركت حينها بأني أصبحت البعيد.... القريب.
أتعلم يا سعد، قد ظننت أن موكبي المرصود هو آخر ما ستقتنصه يد الاغتيال، إلا أن ما روّعني قافلةٌ لحقت بي وتوالت بعدها على إثري، فموكبي إذاً لم يكن الأخير بل هناك كمٌ من الشهداء غفير، إلا أن ما أراحني لمسة يدك التي شعرت بها وهي تضع بكل مهابة دستور المحكمة الخاصة على ضريحي لا حباً بالثأر والانتقام بل طلباً للحقيقة والعدالة.
أسألك يا سعد ما بال قلب بيروت جريحاً؟ كأني أرى الغربان قد أسدلت أجنحتها القاتمة على أفيائه، فأحالته أطلالا. وما بال وسط حبيبتي يذرف دمع الوحدة والانعزال، فأصبح شبحاً من تراب وهيكلاً من خراب. أتعلم مما زاد حزني، أنه وفي لحظة سكينة وعلى بعد أمتار من مثواي شقّ دوي انفجار صارخ صمت رقادي الآمن، لقد دُمّر مرفأ بيروت - ذاك الذي تباهيت به وزهوت - بريح حارقة عاتية مزّقت الأجساد وشرّدت الأحباب وشوهت تراث بناء وتركت بصمة عار دامغة في وجدان وطني الحزين... إنه لزمن رديء ترك لبنان لمصيره البائس.
أراك يا سعد اليوم وقد كبرت، حاملاً أمانةً ثقيلةً، فأنا أعلم أن طريقك بعدي لم تكن معبّدة بالورود وأن سهام الغبن قد طالتك من كل حدب وصوب وأن قدرك السياسي مشابه لقدري، فاصمد كي لا يعرف اليأس إلى قلبك سبيلا، فالرجال سرُّ مواقفها من مبادئها. وإن كان ثمة من يقارنك بي، نعم... أنت لست رفيق الحريري لكنك بالتأكيد ابن أبيك، فمن شابه أباه ما ظلم!.
وأعلم يا سعد أنك تخوض غمار المصاعب وتواجه أقسى المتاعب، فالحياة ساحةٌ تعتريها النجاحات والاخفاقات. أريدك أن تُدرك أن قلبي يخفق مع دقات قلبك، ويدي تشبك يدك، وطيفي دائماً يلاحق خطاك.
أوصيك إن ضاقت بك الدنيا أن تستمد قوتك من جمهور يأبى رؤية جبينك إلا عالياً.
أوصيك أن تستمر بصون إرثٍ ليس ملكاً لنا بل لوطننا لا يهمُّ إن دفعت ثمنه غالياً.
أتعلم يا سعد، أودّ أن أُسرّ إليك بأمرٍ أعلم يقيناً أنك ستصدقه، لو لم تكن أنت من حملت الأمانة حينها لكنت وددت أن تحملها اليوم أنت.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.