تتطلّع الأنظار إلى تجربة الحوار الثقافيّ والفكريّ التي يعيشها المهرجان الوطنيّ للثقافة والتراث الذي ينظّمه الحرس الوطنيّ في المملكة العربية السعودية في الجنادرية كل عام، بتوجيهات من رئيسه، الملك عبدالله بن عبد العزيز.
منذ سنوات والجنادرية هي المكان الأبرز على الخارطة العربية لتعارف وتفاعل وتواصل أهل الثقافة والفكر القادمين من أقطار العالم العربي كافة. يسهم هذا المجال التواصليّ في إغناء تلك الفكرة المركزية التي اسمها الحوار، وفي حثّ المثقفين على تبني هذه الفكرة كهوية جامعة لهم، وكفضاء صانع لفرادة كلّ منهم. وهكذا فإن القسمة الأساسية اليوم في عالمنا العربيّ ليست بين مثقفين تقدميين ومثقفين رجعيين أو بين مثقفين ملتزمين وبين مثقفين غير ملتزمين ولا هي قسمة بين مثقفي أصالة يقابلهم مثقفو تغرّب، بل هي قبل كل شيء قسمة بين مثقفين حواريين يتبنّون الحوار هويّة لهم، وإطاراً للتواصل والتباين والتضامن فيما بينهم، وبين مثقفين لاحواريين يقفون بالضدّ من الثقافة نفسها. إنّ أعداء الحوار الثقافيّ يلغون بموقفهم هذا إستقلاليّة المستوى الثقافيّ عمّا عداه، ويرهنونه في قيد السياسة، فيصبح الفنّ عندهم محض سياسة، وكذلك الأدب، ناهيك عن الإنسانيات، وهذا ما يلغي بدوره مضمون السياسة التي تمسخ عندهم تفسيراً تآمرياً لكل شيء وتعريضاً صبيانياً بكل صاحب موقف أو رأي.
واللبنانيّون القادمون إلى الجنادرية يستشعرون، أكثر من سواهم ربّما، أهميّة الحوار، لا سيّما ان بلدهم يجد صعوبة ما بعدها صعوبة في الإحتكام إلى ثقافة الحوار، سواء بقصد إنجاح تجربة حكومة الوحدة الوطنية أو لتحقيق تقدّم ولو جزئيّ على طاولة الحوار. لا عجب إذاً أن يكون الوفد اللبنانيّ المشارك في الجنادرية من أكبر الوفود، وأن يجيء متعدّداً ومتنوعاً، سواء في المشرب أو من حيث الإختصاص.
واللبنانيّون الذين تناضل حركتهم الإستقلاليّة الدستوريّة لتكريس المناصفة الإسلامية المسيحية كفلسفة كيانية ميثاقية للبنان، وكمدخل مركزيّ لتفسير كل مواد الدستور اللبنانيّ، إنّما هم معنيّون بشكل حيويّ، في تتبع حال التعبير الثقافيّ السعوديّة عن المبادرات التي أطلقها ويطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز تشجيعاً لـالحوار كقيمة عربية وكونية عظمى، ينعقد تحت لوائها الحوار بين الثقافات مثلما تتحقّق في إطارها المصالحات العربيّة.
فلبنان الإسلاميّ المسيحيّ بلد استعاد موقعه المستقل على الخارطة عندما نجح في المزاوجة بين روحيّة الإرشاد الرسوليّ للبابا الراحل يوحنا بولس الثاني وبين إستراتيجية النهوض التي جسّدها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وهذا اللبنان الإسلاميّ المسيحيّ إنّما يجد روحية فلسفته الكيانيّة الميثاقية في ذاك الحوار الحقيقيّ والمعمّق بين المملكة العربية السعودية من جهة وبين دولة الفاتيكان والكرسيّ البابويّ من جهة أخرى، وهو الحوار المنطلق بشكل رائد منذ الحدث التاريخي المتمثّل بزيارة الملك في 6 تشرين الثاني 2007 إلى دولة الفاتيكان، ولقائه البابا بنديكتوس السادس عشر، والأهمّ من ذلك الإتفاق بين خادم الحرمين الشريفين وبين رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم على ثلاثية الدفاع المشترك عن القيم الدينية والأخلاقية بوجه التيارات والمنازع الجحودية والعدمية، والدفع المشترك بإتجاه التسوية العادلة في الشرق الأوسط، والإقتناع المشترك بـأهمية الحوار بين الثقافات والأديان. إنّ هذه الثلاثية تمثّل شبكة الأمان الأخلاقية الثقافية الوجدانية لكل من يقتنع بفلسفة لبنان القائمة على المناصفة الإسلامية المسيحية.
في هذا الإطار بالذات تكمن أهميّة التوجيه الحاليّ للمهرجان بأهميّة وضرورة تقبّل الآخر، والتقبّل هنا اختصارٌ مكثّف لمشروع تاريخيّ ثقافيّ ما زال في طور استجماع أدواته ومفاهيمه لتدعيم مناعته الحيوية بإزاء كل نزوع إلى تخوين الآخر (الشوفينية) أو إلى تكفير وتنجيس الآخر (الغلوّ).
ومن قبيل تقبّل الآخر في هذا المجال ما عنيت به جنادرية هذا العام من مناقشة لموضوع السلفية، وهي مناقشة يربط شرط تثميرها بإمكان التأليف النقديّ والنافع بين تجربة الإحياء السلفيّ الدينيّ ودروسها وبين تجربة كل من استمرار التقليد الدينيّ من جهة ثانية، ومحاولات الإصلاح الدينيّ الليبراليّ من جهة ثالثة. الحوار الثقافيّ هنا لا يعود فقط تقبّلاً للآخر بل إعادة توحيد للذات، من خلال مدّ الجسور بين الفضاءات التقليدية والسلفية والليبرالية التي تشغل مساحة هذه الذات.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.