كتب محمود القيسي (*):
حيث تبتسمُ الوجوهُ المرسومة بالطبشور
حيث تضحكُ سيدة “الموت”
حيث يتعطّلُ المصعد
حيث يتبدّدُ المشهدُ السياسي
حيث عامل السوبرماركت يحملُ شهادةً جامعية
حيث الأسماكُ الزيتية تلفظُ فريستها الزيتية
حيث الشمسُ مغطّاةٌ بقناع.
ولدنا هكذا في قلب هذا
في حروبٍ مجنونةٍ مدروسة
في مصانع تحطَّمتْ نوافذُها من الخواء" يتبع…
كتب تشارلز بوكوفسكي قصيدته الاشهر "الديناصورات" في أوائل سبعنيات القرن المنصرم وكأنه يخاطب "لبنان" هذه الايام.. لبنان "رهينة" عهد الانهيار والانفجار والتعطيل، البلد الذي يموت كل يوم في عهد (الديناصورات المنقرضة) مرة في الشهيق ومرتين في الزفير، الوطن الذي اصبح "رسالة في مهب الريح-ريح الأمراض السياسية والفكرية والعصبية المستعصية من "النزيل" الاول في مأوى العجزة الرئاسية في بعبدا وصولاً الى "يهوذا" المختبئ خلف اسوار "وكر" ميرنا الشالوحي الهشة.. "كتب بوكوفسكي القصيدة التي يصور فيها وبين كلماتها وسطورها المتفجرة عالمنا الديستوبي (Dystopian) وهو في طور الانحلال والتحلل، متنقلًّا بين الزمن الماضي والحاضر والمستقبل لرصد حالة واحدة، حالة التفسّخ والتلاشي العام." قد يبدو عنوان القصيدة غريبًا للوهلة الأولى، لكنْ بعد القراءة ندرك أننا في لبنان ماضُون في طريق أسلافنا الديناصورات، حيث أنّ بعض من "يملكون" السلطة يولدون من الفساد، ويعيشون عليه، ويموتون بسببه. فتبدو الحياةُ سائرةً من الفساد إلى الفساد. لم يقُل الشاعر إنّ الفساد هو الخطأ الوحيد للجنس البشري، لكنه أوضحَ أنّ جميعنا مشتركون في تغذيته. تبدأ القصيدة بعرض صورٍ لهذا الفساد من قطاعاتٍ متعددة مثل انسداد الأفق السياسي كما يحصل ألان في بلاد الارز أو بلاد جهنم كما وصفها رئيس أوركسترا جهنم القادمة إلى لبنان، وعدم جدوى التعليم كما اتحفنا أحد وزراء العلة والحرف الناقص، والتلوث البيئي في لبنان الأخضر سابقاً والذي أصبح مكب للنفايات في عهد العلة والحروف الناقصة والمفعول به المستمر، وفساد النظام الصحي ورقص وزير الصحة محمولاً على أكتاف المواطنين في حكومة تصريف أعمال النائمين، والقضاء والسجون والمصحّات العقلية هذا ناهيك عن الفساد الذي يصنع من الحمقى مشاهير وأثرياء.. يتابع بوكوفسكي الوصف التراجيدي في قصيدةً الديناصورات قائلاً:
"ولدنا هكذا في قلب هذا
في مستشفياتٍ باهظةِ التكاليف
فمِنَ الأرخصِ لنا أنْ نموت،
ومحامين بأجورٍ فاحشة
فمن الأرخص أنْ نعترفَ بأننا مذنبون،
في بلادٍ سجونُها ممتلئة
ومصحّاتُـها العقلية مغلَقة،
في مكانٍ ترفعُ فيه الجماهيرُ الحمقى
لتجعلَ منهم أبطالًا أثرياء.
ولدنا هكذا في قلب هذا
نمشي ونعيش في داخله…"
"ترتفعُ القصيدة تدريجيًّا بعدها إلى مشهديّةٍ تشبه سِفْر الرؤيا (Apocalypse) أو يوم القيامة، أو جهنم مباشرة، ويرى الشاعر أنّ القيامة سوف تبدأ من القطاع المالي، من إفلاس المصارف وفقدان النقود لقيمتها الشرائية. يتبعُ ذلك انتشارٌ للسلاح وما نراهُ اليوم (خاصةً في عالمنا العربي) من مجازر لا يحاسبُ فاعلوها.. ثم تتفاقم الأزمة الغذائية والمجاعة، بينما يهربُ رأسُ المال من الكارثة التي تسبّب بها.." كما فعل في أيامنا هذه وهرب مُلثّماً خلف "ستائر"، أو تحت "جناح" ليل ما يسمى "حراك".. حراكاً مشغول بالحبكة الخارجية والحبكة الداخلية وما بين بين.. "إنّ ما نراهُ لمرعبٌ حقًّا، سوف يدخل الجمع بأكمله في حالةٍ من الفوضى العمياء، وصفَها بوكوفرسكي قبل عشرات السنين بجملةٍ مكثفة:
“سوف يبدو جحيمُ دانتي لعبة أطفال" سوف تظلُّ الشمس مختبئةً في مكانها بعد انقراضنا، تنتظر “الفصل التالي” من الحياة. وكأنّ الوجود البشري برمّته؛ كان مجرّد فصلٍ من كتابٍ تقرؤهُ الشمس." ينهي شاعر الواقعية "الوسخة"، الواقعية بإمتياز واقعي قصيدة الديناصورات "البشرية".. قصيدةً السلطة والمال والفساد على النحو الدراماتيكي التالي:
ولدنا هكذا في قلب هذا
في حكومةٍ مدينةٍ منذ سنين
وقريبًا تعجزُ عن سَداد فوائد الدَّين.
سوف تحترقُ المصارفُ
ويغدو المالُ دون أيةِ قيمة،
ستكون هناك مجازرُ مفتوحةٌ في الشوارع
دون قيدٍ أو مساءلة،
أسلحةٌ… وغوغاءٌ هائمون.
ستصبحُ الأرضُ عقيمةً
والطعامُ غير كافٍ
والأغنياءُ والمختارون يراقبون كلَّ ذلك
من منصّةٍ في الفضاء.
سوف يبدو “جحيمُ دانتي” لعبةَ أولاد!
لن نرى الشمسَ أبدًا
سيصيرُ الليلُ سرمديًّا،
الأشجارُ تموت
الغطاء النباتي يموت،
سيصيرُ البحرُ مسمومًا
وتختفي البحيراتُ والأنهار،
ويعُمُّ الصمتُ الأجملُ
صمتٌ لم يسمعه أحدٌ من قبل.
بينما تختبئُ الشمسُ في مكانها
وتنتظرُ الفصلَ التالي."
نعم، تختبئُ الشمسُ في مكانها وتنتظرُ الفصل التالي.. في حين يهذي رأس المواطن بشيئٍ مثل طنين الصمت، يشاركه الصمت كذلك بالهذيان.. ويحدق في عهد الظل، او ظل العهد، او عهد اللاشيء.. حيث ينتهي الظل إلى اللاشيء، حيث ينتهي عهد الدكاكين "العونية" والمساحيق الرخيصة والكلام الكذب إلى اللاشيء مجدداً .. وينتهي سفسطائي الكذب إلى مزبلة الكلام-الكلام الكذب.. كما ينتهي إلى مزبلة التاريخ-تاريخ الكذب-كذبة العونية.. او العونية الكذبة-الكذبة التاريخية..!!!
(*) عضو المكتب التنفيذي في "تيار المستقبل"
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.