رشيد درباس - "النهار"
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ
سورة البقرة
لا تكفُّ الأرض عن خلع قشورها البشرية لتواريها تباعاً في غياهب الحُفَر، ثم تحييها على أشكال أُخَر، في دورةٍ لا تنتهي من تداول الحياة والموت.
والثابت في رحلة العمر أن الولادة واحدة والموت واحد، إلا في لبنان، حيث يتوالد سفلة الساسة وتجار الحروب والمآسي كالفطر السام، ويموت المرء في اليوم عشرات المراتِ، بل مئاتها، علماً أن الذين يمارسون علينا ظلم التوليد والإماتة ينتمون إلى صنف واحد، فيرتكبون بذلك الشرك بالله الذي هو خالق النفوس وقابضها دون سواه.
يسألونك عن انفجار المرفأ وحريق عكار، واغتيال الغابات، وفقدان الوقود واستقالة الكهرباء واضمحلال الدواء وتلوث الهواء وجفاف الماء، فأجبهم بجملة من الأسئلة:
عندما يحجم ربان الطائرة وطاقمها عمداً عن صيانة آلتهم في مواعيدها، وعن تزويدها بالوقود، ثمَّ يتلفون خرائطها الملاحية، أفلا يكونون مسؤولين عن جريمة القتل العمد في حال سقوطها؟
وعندما يتعمد سائق القطار أن ينطلق بعد فوات موعده، أو قبلهلغرض في نفسه، أفلا يكون مسؤولاً عن التصادمكفعل جرمي، جرى تنفيذه بنية مبيتة ودم بارد وسبق إصرار؟
وإذا اعترض أحدهم، سواء كان قاطع طريق أو شرطي سير، عربة إسعاف ومنعها من إيصال جريح نازف إلى المستشفى، أفلا يكون كمن أطلق النار على من ظل ينزف حتى الموت؟
فإن أردت أن تجري التطبيقات السياسية على تلك المسألة، فعليك أن تستنج أن من يعبث بالدستور ويعطل أحكامه، ويزدري بالمواعيد الدستورية فيدخلها في الفراغ سنوات طويلة هو المسؤول المباشر عن انفجار بيروت وعن باقي المآسي اللبنانية، حيث لا يستقيم العدل بأن يُحَمِّلُ القادة المسؤولية للموظفين الذين تمموا واجباتهم الورقية ظنًّا منهم بأنهم يتنصلون بهذا قانوناً من التبعات في دولة تردَّت بنيتها، وانصرف ساستها عن رعاية مصالح الناس إلى الصراع حول مصالحهم، علماً أن ثقافة التنصل صارت سائدة من أعلى الهرم إلى أسفله، والمثل في ذلك كمثل طاقم القيادة في السفينة الذي يبحر عكس النشرة الجوية، ويخرب آلة سبر الأغوار والرادار، ولا يجدد الحبال والأسلاك ويعطل المولد الكهربائي، ثم لا يتورع عن إدانة البحارة بجريمة ارتطام المركب بالصخور.
ويسألونك بعد هذاعن التدقيق الجنائي، فأجبهم بأنهم محقون، لأن الحاكم العارف العالم يُسْأَلُ عما سكت عنه وجرى بعلمه ومعرفته وتوقيعه، فكيف إذا كان مسايراً للديناصورات الذين أرهقوا الخزينة وأرهبوا المصارف ثم تواطؤوا معها إلى أن حصلت أكبر عملية قرصنة في تاريخ لبنان حيث نجح القادة العظام من دون جهد يذكر بإزالة الفوارق بين الطبقات، فصار الفقر عمومياً والمعاناة مشتركة، وعاد ميسور الحال إلى قدميه سيراً، وزحف الفقير إلى رغيفه جوعاً، فيما لم يشعر الحكام المعطلون بلفحة حر، أو برهة ظلام أو لسعة ضمير.
كل هذه الأمور تجري في ظل فوضى إعلامية وقانونية وأمنية خدمة لغموض سياسي أدخل المواطنين في دوامة الغيب وسؤال الوَدَع وقراءة الفنجان والضرب بالرمل وانتظار ليلة رأس السنة ليعرفوا مصيرهم على لسان الثنائي العَرَّاف ميشال وليلى. لقد ألهَوْنا "بحَكِّ جلدنا" كما يقول المثل العامي، وبتنا نتساءل عما إذا كان هذا التدمير المنظم المتعمد هو توطئة لهيمنة نظام جديد يقوم اقتصاده على زراعة الأسطح والشرفات، أم تمهيداً لتوزيع خريطة لبنان كجوائز ترضية على أهل الجوار الأبرار؟
نحن إذن في حالة انتظار ريثما ينجلي التجاذب بين القوة الصينية الصاعدة مع حلفائها والقوة الأميركية المتراجعة مع أشباه الحلفاء،ليجري احتسابنا بعد هذا على أحد الطرفين، فإذا طال ذلك التجاذب دون نتيجة ملموسة فربما ندخل العصر الأفغاني بشراويله المزركشة على حد تعبير سمير عطالله، حيث "سيفرُّ المرء من أخيه وصاحبته وبنيه"، إذ عند انهيار بنية الدولة ستتوالد الأسلحة المتفلتة في الشوارع وسنرجع لعهد العصابات الذي هو أكثر توحشاً من عهد الميلشيات؛فإذا عدنا إلى الفوضى الإعلامية وجدنا أن نعمة الحرية تحولت إلى نقمة، بعدما تبوأ أصحاب التلفزة سدة القاضي والدَّيان، وافتتحوا لأنفسهم دوائر تحقيق ومحاكمات، وراحوا يصدرون شهادات ميلاد سياسية وأخرى للوفاة، ويسربون التحقيقات، ويتخذ بعضهم المشانق شعاراً، ويستثمرون في آلام الناس، وهذا كله لا يفضي إلا إلى تضييع الحقيقة من خلال ذبحالقرابين إشباعاً كاذباً للحزن المحق والمستعر في الصدور. هنا تجدر الملاحظة أنه يجب التفريق بين الفساد السياسي الذي من الصعب أن ينجو أحد من غرباله وبين التحقيق القضائي الذي يجب أن يكون مستقلاً وشجاعاً لدرجة ألا يتأثر بالغضب العام واليافطات المرفوعة والهتافات المتفلتة والتهديدات الجوفاء، وعليه فهلزجُّ رئيس الحكومة الدكتورحسان دياب في السجن سيُبرِّد القلوب، ويريح الوجدان العام بأن القاتل أصبح وراء القضبان؟ إن ذلك النهج الفوضوي الذي تختلط فيه المصطلحات القانونية بصورة لا تمت إلى الاحتراف بصلة، حيث يجري الادعاء سنداً للمادة 547 عقوبات والصحيح هي المادة 548 لأن الأولى تنطبق عندما يكون الضحية واحداً، أما إذا كثرت الضحايا فالمادة الأخرى هي الواجبة التطبيق، وكذلك يظهر الجهل جلياً في الخلط بين القتل القصد والقتل العمد، فإذا وصلنا إلى القصد الاحتمالي فسينتفض"غارو" من قبره، وسيأسف فؤاد عمون وفيليب بولس ومصطفى العوجي وعاطف النقيب على تردٍّ لم يدر في خلد أي منهم أننا سنصل إلى "احتمال" حدوثه، إذ علينا أن نصدق أن المدعى عليهم كلهم، في لحظات عجائبية تلاقوا دون اتفاق وتوقعوا وقبلواتدمير المرفأ والعاصمة، من غير أن تكون لهم مصلحة في ذلك بل إن أكثرهم قبلوا على أغلب الظن أن يكونوا هم الضحايا لعلة دوامهم الوظيفي في مكان الانفجار!!
يستنزف اللبنانيون طاقاتهم الجسدية في انتظار قطرات لتوليد الطاقة الكهربائية فتتحد بذلك المحروقات مع المحروقين تسريعاً لاحتراق الدولة وخدمة "للفكرة الأسمى" وهي تدمير المعلوم ليقام عليه مشروع مجهول يذكرنا بطغاة الربع الأخير من القرن العشرين من أمثال "بول بوت" وسواهم.
ثم يسألونك أخيراً عن القضاء فحذرهم من أن يفقد حرف القاف إحدى نقطتيه أو يفقد التفتيش تاءه الأولى، وَذَكِّرْهم بأن القضاء يُتَّخُذُ في دول الاستبداد وسيلة تنكيل بالخصوم وكيد للمواطنين خصوصاً إذا وهن الانضباط إلى حد ركوب المرؤوس على ظهر رئيسه، وانفلشت الصلاحيات انفلاشًا يؤشر على بيع الميزان في سوق النخاسة.
ويسألونك عن الحكومة، فأجبهم بما قاله رب العاليمن: "يسألونك عن الساعة أيان مرساها، قل إنما علمها عند ربي. ص .ع".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.