6 أيلول 2021 | 19:53

أخبار لبنان

المحروقات والمحروقون

المحروقات والمحروقون

رشيد درباس - "النهار"




ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ ‏أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ‎ ‎

سورة البقرة

لا تكفُّ الأرض عن خلع قشورها البشرية لتواريها تباعاً في غياهب ‏الحُفَر، ثم تحييها على أشكال أُخَر، في دورةٍ لا تنتهي من تداول الحياة ‏والموت.‏

والثابت في رحلة العمر أن الولادة واحدة والموت واحد، إلا في لبنان، ‏حيث يتوالد سفلة الساسة وتجار الحروب والمآسي كالفطر السام، ويموت ‏المرء في اليوم عشرات المراتِ، بل مئاتها، علماً أن الذين يمارسون علينا ظلم ‏التوليد والإماتة ينتمون إلى صنف واحد، فيرتكبون بذلك الشرك بالله الذي هو ‏خالق النفوس وقابضها دون سواه.‏

يسألونك عن انفجار المرفأ وحريق عكار، واغتيال الغابات، وفقدان ‏الوقود واستقالة الكهرباء واضمحلال الدواء وتلوث الهواء وجفاف الماء، ‏فأجبهم بجملة من الأسئلة:‏

عندما يحجم ربان الطائرة وطاقمها عمداً عن صيانة آلتهم في ‏مواعيدها، وعن تزويدها بالوقود، ثمَّ يتلفون خرائطها الملاحية، أفلا يكونون ‏مسؤولين عن جريمة القتل العمد في حال سقوطها؟

وعندما يتعمد سائق القطار أن ينطلق بعد فوات موعده، أو قبلهلغرض ‏في نفسه، أفلا يكون مسؤولاً عن التصادمكفعل جرمي، جرى تنفيذه بنية مبيتة ‏ودم بارد وسبق إصرار؟

وإذا اعترض أحدهم، سواء كان قاطع طريق أو شرطي سير، عربة ‏إسعاف ومنعها من إيصال جريح نازف إلى المستشفى، أفلا يكون كمن أطلق ‏النار على من ظل ينزف حتى الموت؟

فإن أردت أن تجري التطبيقات السياسية على تلك المسألة، فعليك أن ‏تستنج أن من يعبث بالدستور ويعطل أحكامه، ويزدري بالمواعيد الدستورية ‏فيدخلها في الفراغ سنوات طويلة هو المسؤول المباشر عن انفجار بيروت ‏وعن باقي المآسي اللبنانية، حيث لا يستقيم العدل بأن يُحَمِّلُ القادة المسؤولية ‏للموظفين الذين تمموا واجباتهم الورقية ظنًّا منهم بأنهم يتنصلون بهذا قانوناً من ‏التبعات في دولة تردَّت بنيتها، وانصرف ساستها عن رعاية مصالح الناس ‏إلى الصراع حول مصالحهم، علماً أن ثقافة التنصل صارت سائدة من أعلى ‏الهرم إلى أسفله، والمثل في ذلك كمثل طاقم القيادة في السفينة الذي يبحر عكس ‏النشرة الجوية، ويخرب آلة سبر الأغوار والرادار، ولا يجدد الحبال والأسلاك ‏ويعطل المولد الكهربائي، ثم لا يتورع عن إدانة البحارة بجريمة ارتطام ‏المركب بالصخور.‏

ويسألونك بعد هذاعن التدقيق الجنائي، فأجبهم بأنهم محقون، لأن الحاكم ‏العارف العالم يُسْأَلُ عما سكت عنه وجرى بعلمه ومعرفته وتوقيعه، فكيف إذا ‏كان مسايراً للديناصورات الذين أرهقوا الخزينة وأرهبوا المصارف ثم ‏تواطؤوا معها إلى أن حصلت أكبر عملية قرصنة في تاريخ لبنان حيث نجح ‏القادة العظام من دون جهد يذكر بإزالة الفوارق بين الطبقات، فصار الفقر ‏عمومياً والمعاناة مشتركة، وعاد ميسور الحال إلى قدميه سيراً، وزحف الفقير ‏إلى رغيفه جوعاً، فيما لم يشعر الحكام المعطلون بلفحة حر، أو برهة ظلام أو ‏لسعة ضمير.‏

كل هذه الأمور تجري في ظل فوضى إعلامية وقانونية وأمنية خدمة ‏لغموض سياسي أدخل المواطنين في دوامة الغيب وسؤال الوَدَع وقراءة ‏الفنجان والضرب بالرمل وانتظار ليلة رأس السنة ليعرفوا مصيرهم على ‏لسان الثنائي العَرَّاف ميشال وليلى. لقد ألهَوْنا "بحَكِّ جلدنا" كما يقول المثل ‏العامي، وبتنا نتساءل عما إذا كان هذا التدمير المنظم المتعمد هو توطئة لهيمنة ‏نظام جديد يقوم اقتصاده على زراعة الأسطح والشرفات، أم تمهيداً لتوزيع ‏خريطة لبنان كجوائز ترضية على أهل الجوار الأبرار؟ 

نحن إذن في حالة انتظار ريثما ينجلي التجاذب بين القوة الصينية ‏الصاعدة مع حلفائها والقوة الأميركية المتراجعة مع أشباه الحلفاء،ليجري ‏احتسابنا بعد هذا على أحد الطرفين، فإذا طال ذلك التجاذب دون نتيجة ‏ملموسة فربما ندخل العصر الأفغاني بشراويله المزركشة على حد تعبير سمير ‏عطالله، حيث "سيفرُّ المرء من أخيه وصاحبته وبنيه"، إذ عند انهيار بنية ‏الدولة ستتوالد الأسلحة المتفلتة في الشوارع وسنرجع لعهد العصابات الذي هو ‏أكثر توحشاً من عهد الميلشيات؛فإذا عدنا إلى الفوضى الإعلامية وجدنا أن ‏نعمة الحرية تحولت إلى نقمة، بعدما تبوأ أصحاب التلفزة سدة القاضي ‏والدَّيان، وافتتحوا لأنفسهم دوائر تحقيق ومحاكمات، وراحوا يصدرون ‏شهادات ميلاد سياسية وأخرى للوفاة، ويسربون التحقيقات، ويتخذ بعضهم ‏المشانق شعاراً، ويستثمرون في آلام الناس، وهذا كله لا يفضي إلا إلى تضييع ‏الحقيقة من خلال ذبحالقرابين إشباعاً كاذباً للحزن المحق والمستعر في ‏الصدور. هنا تجدر الملاحظة أنه يجب التفريق بين الفساد السياسي الذي من ‏الصعب أن ينجو أحد من غرباله وبين التحقيق القضائي الذي يجب أن يكون ‏مستقلاً وشجاعاً لدرجة ألا يتأثر بالغضب العام واليافطات المرفوعة والهتافات ‏المتفلتة والتهديدات الجوفاء، وعليه فهلزجُّ رئيس الحكومة الدكتورحسان دياب ‏في السجن سيُبرِّد القلوب، ويريح الوجدان العام بأن القاتل أصبح وراء ‏القضبان؟ إن ذلك النهج الفوضوي الذي تختلط فيه المصطلحات القانونية ‏بصورة لا تمت إلى الاحتراف بصلة، حيث يجري الادعاء سنداً للمادة 547 ‏عقوبات والصحيح هي المادة 548 لأن الأولى تنطبق عندما يكون الضحية ‏واحداً، أما إذا كثرت الضحايا فالمادة الأخرى هي الواجبة التطبيق، وكذلك ‏يظهر الجهل جلياً في الخلط بين القتل القصد والقتل العمد، فإذا وصلنا إلى ‏القصد الاحتمالي فسينتفض"غارو" من قبره، وسيأسف فؤاد عمون وفيليب ‏بولس ومصطفى العوجي وعاطف النقيب على تردٍّ لم يدر في خلد أي منهم أننا ‏سنصل إلى "احتمال" حدوثه، إذ علينا أن نصدق أن المدعى عليهم كلهم، في ‏لحظات عجائبية تلاقوا دون اتفاق وتوقعوا وقبلواتدمير المرفأ والعاصمة، من ‏غير أن تكون لهم مصلحة في ذلك بل إن أكثرهم قبلوا على أغلب الظن أن ‏يكونوا هم الضحايا لعلة دوامهم الوظيفي في مكان الانفجار!!‏

يستنزف اللبنانيون طاقاتهم الجسدية في انتظار قطرات لتوليد الطاقة ‏الكهربائية فتتحد بذلك المحروقات مع المحروقين تسريعاً لاحتراق الدولة ‏وخدمة "للفكرة الأسمى" وهي تدمير المعلوم ليقام عليه مشروع مجهول يذكرنا ‏بطغاة الربع الأخير من القرن العشرين من أمثال "بول بوت" وسواهم.‏

ثم يسألونك أخيراً عن القضاء فحذرهم من أن يفقد حرف القاف إحدى ‏نقطتيه أو يفقد التفتيش تاءه الأولى، وَذَكِّرْهم بأن القضاء يُتَّخُذُ في دول ‏الاستبداد وسيلة تنكيل بالخصوم وكيد للمواطنين خصوصاً إذا وهن الانضباط ‏إلى حد ركوب المرؤوس على ظهر رئيسه، وانفلشت الصلاحيات انفلاشًا ‏يؤشر على بيع الميزان في سوق النخاسة.‏

ويسألونك عن الحكومة، فأجبهم بما قاله رب العاليمن: "يسألونك عن الساعة ‏أيان مرساها، قل إنما علمها عند ربي. ص .ع".‏

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

6 أيلول 2021 19:53