اسعد حيدر
لحقت "الامبراطورية "الاميركية بـ"الامبراطوريتين "البريطانية والسوفياتية، في دفن أحلامها ومشاريعها في جبال ووديان افغانستان، بعد واحدة من اطول حروبها والأكثر كلفة. كان يجب ان يتم وقف الحرب والمغادرة منذ وقت طويل، لكن بوجود رئيس مثل دونالد ترامب وحتى من سبقوه، كان من الصعب وحتى من المستحيل الإقدام على اتخاذ هذا القرار الاستراتيجي . لكن التحولات العميقة التي واجهتها واشنطن امام روسيا والصين، والخوف من الصدام معهما اقتصاديا، وانتشارا في العالم في ظل خلل واضح في موازين القوى اقتصاديا وماليا، كان لا بد من الانكفاء عن جبهة بهدف تحصين جبهات اخرى .. ولا شك ان الرئيس جو بايدن قد وضع كل خبرته وتجربته السياسية الخارجية، في عملية الانسحاب العسكري من افغانستان . لكن ذلك ورغم وجود فريق عمل مهم ورغم ان وزير الدفاع سبق له وان اشرف على الانسحاب العسكري من العراق، فان اخطاء وقعت أنتجت هذه المشاهد المرعبة والحزينة لألوف الافغان، وهم يتعلقون بالطائرات الاميركية للهرب من ذكرى "الوحش" الذي يجتاح كابول، المشبعة بأبشع تجربة حكم في تاريخ البشرية على يد" الطالبان " . والأصعب بالنسبة للاميركي العادي، تعميد العملية كلها بمقتل الجنود ١٣ في عملية وداع داعشية، تؤكد عودتها الى الحياة والنشاط … ولا شك ان اخطاء وقعت ولكنها تبقى محدودة امام اجلاء حوالي ١٢٥ الف جندي ومدني، يسكن الخوف القاتل معظم الأخيرين، وهذه العملية ستدخل التاريخ بعد ان تهدأ الأوضاع وتستعاد وقائعها للاستفادة من دروسها … بالنسبة للاميركيين في الداخل لقد تم توفير ٣٠٠مليون دولار يوميا، التي كانت تنفق على حرب بلا أفق، وهذه الأموال ستنفق في الداخل، في وقت تحتاجه اميركا في ظلال الكورونا الكارثية على اكثر من صعيد، خصوصا في القطاع الاقتصادي .
الحرب الاميركية انتهت في افغانستان لكن الحرب فيها لم تنته … بالعكس بالكاد بدأت، في أشكال جديدة وأطراف جدد - قدامى واهداف متشابكة ومتنافسة . سرعة سقوط وادي بانجشير، تؤكد وجود تطورات وتدخلات غير معلنة .الطالبان ربحوا معركة وليس الحرب . ابن "اسد" الوادي احمد شاه مسعود أعلن عمليا المقاومة ، والآن يجب انتظار التطورات لمعرفة شكل ومضامين المسارات التي ستتشكل، ورفض ايران للهجوم يؤشر الى واحدة من التطورات. اميركا خرجت لكن قوى كثيرة مهمة موجودة ومتواجدة، وعندها الرغبة والإرادة بلعب دور في المستقبل ومن أهمها : الصين وروسيا وتركيا وقطر وايران وباكستان والهند، اضافة الى الجمهوريات الاسلامية وأبرزها أوزباكستان وطاجكستان … وبطبيعة الحال مع متابعة اميركية دقيقة .
بداية كل التطورات مرتبطة بمسار الطالبان في السلطة، وما اذا كانوا سيلتزمون بالتغير والتغيير، ام ان كلام ما قبل الانتصار تمحوه مفاعيل كرسي السلطة. من مصلحة تركيا وقطر ان ينجح الطالبان في إقناع العالم، بانهم تغيروا وأنهم لم يكتفوا بتغيير جلدهم وانما غيروا ايضا ممارساتهم وطوروا فكرهم الاسلامي بما يبعدهم عن تطرف القاعدة وداعش . تركيا وقطر تعانيان من تراجع الفكر الاسلامي الاخواني في السلطة، سواء في مصر او تونس او السودان … وقد سنحت الفرصة الان لخوض مسار جديد "يحي العظام وهي رميم"، يساهم في منح اردوغان قوة دفع لزعامته المنقبضة، وتاكيد لأمير قطر بان جزيرته في قلب العالم، وليس فقط في قلب ملاعب كرة القدم . يبقى ماذا عن دول الحزام الجغرافي والسياسي :
الصين رحبت بانتصار الطالبان ورحيل الأمريكيين ، وهي تعد بالمشاركة في اعادة إعمار افغانستان. طبعا كل شيء يتوقف على سلوك الطالبان، سواء داخليا او بالتعامل مع القضايا الاسلامية الخارجية، وتحديدا قضية "الايغور "التي هي في صلب الأمن القومي الصيني والقاعدة وداعش…
باكستان تبدو الاكثر ارتياحا وترحيبا بانتصار الطالبان وكانه شريك به، وهي سارعت الى ايفاد مدير مخابراتها لتقييم الوضع والتعاون . المستقبل وحده سيحدد حجم مكاسب باكستان في مواجهة ايران والهند، وكل ذلك يتوقف على حجم التفاهم مع واشنطن
الهند قلقة جدا من خسارة استثماراتها التي تبلغ ثلاثة مليارات دولار في ٤٠٠مشروع، والاهم كيف ستتعامل كابول -الطالبان مع تنظيمي "عسكر طيبة" و"جيش محمد " الإسلاميين ؟ هل تضبطهم ام تتركهم ينشطون فيقع التخريب والخراب ؟
ايران تبدو قلقة وحذرة جدا رغم سعادتها بمغادرة الاميركيين بعيدا عن حدودها … تذكر طهران بانها أقامت علاقات مع الطالبان قبل فترة، لكن هذا لا يكفي للاطمئنان والدليل ان مجلس الشورى، عقد جلسة مغلقة بمشاركة قائد فيلق القدس الجنرال قآني حول افغانستان، جرى خلالها التاكيد بان "ايران مستعدة لمواجهة التطورات دبلوماسيا ودفاعيا "، وانه لولا الامركيين وضغطهم على الحكومة السابقة كانت الاتصالات قد تطورت اكثر … ايران لها حضور قوي في افغانستان عبر "الهزارة "الشيعة، الذين اصبحوا يملكون خبرات عسكرية عبر فيلق "الفاطميّون " الناشط عسكريا في سوريا، وعبر مليوني لاجئ وأكثر من الافغان عندها. وحتى علاقات مع البشتوني عبر حكمتيار … ايران تنتظر تشكيل الحكومة الطالبانية لتحديد مسار المستقبل …
روسيا سعيدة بهزيمة الاميركيين المشابهة لهزيمتها التاريخية، التي ساهمت في إسقاط الاتحاد السوفياتي ،لكن هذا لا يكفي خصوصا وان الاخطار قائمة بالنسبة للجمهوريات الاسلامية التي تربطها بهم علاقات عميقة ومهمة … روسيا قلقة من تطوير الحركات الاسلامية المتطرفة لنشاطها، وهي تتابع بدقة تدفق المقاتلين الإسلامين عبر طاجكستان الى افغانستان مما يفتح الأبواب نحو تطوير العلاقات الإرهابية .
المستقبل بالنسبة للجميع غامض، لكن لا شك ان جو بايدن قد رمى كرة نار مشتعلة في احضان كل هذه الدول المحيطة والمعنية بافغانستان، وليس عليه سوى المراقبة والتخل من بعيد وعبر الوكلاء اذا دقت الساعة
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.