رحيل الشاعر اللامنتمي محمد العبدالله

رحل الصديق الشاعر محمد العبدالله، درب الرحيل طالت بعدما قصرت الأحوال، والمآلات صنو تحول فريسة يقظة، ولا غياب ولا ارتداء فالفريسة قد استُفرست. حياة ليست مصنوعة سوى للحياة. وشعر ليس مكتوباً سوى للشعر، ونثر خاص من شباك الذات والعبثية والسخرية واللامعقول والجرح والندوب والتذكار والمرارة. شعر خاص هو شعر محمد عبدالله. ولا التزام ولا أفكار جاهزة ولا محنطات لغوية أو داخلية، ولا ارتباط ولا شلل ولا وصايا ولا نظريات. انه جوهر الشعر جوهره يأتي من اماكن لا تنتظرها لكنها من حواسه ويومياته وخواصه وسعاله وأرقه وشغفه ولامبالاته واهماله الذي يعبر عن تلك الحرية التي افتقدها الكثيرون ومجافاته الاحتفالات وقنص الجوائز وتركيب النصوص بما لا تشتهي الرياح. كأنما كتابته من فيض فجائي جاء من ينبوع بعيد وعميق من قرار المجتمع، ومن شروخ الذات، ومن سواد النظرة الممسوحة بالسخرية. أعرفه منذ بداية السبعينات، طالب أدب في كلية التربية في الجامعة اللبنانية، يسارياً، في منظمة العمل الشيوعي (التي كان يلقب بعض أفرادها بـألونزو) لكن شعريته المنفردة تألقت عندما شارك في المهرجان الشعري السنوي الذي أنشأته كرئيس قسم الطلاب في الكلية المذكورة وها هو محمد يعتلي المنصة، ويفرض حضوره بصوته وقامته وبقصيدته الرائعة بيروت.
ابن الخيام الآتي من الجنوب يدشن مسيرته الشعرية ببيروت. آه! من بيروت كم كان أروعها. ولم يكن امام لجنة التحكيم سوى منحه الجائزة الأولى. انها البداية المنفردة لشاعر منفرد. تحصن كذلك بثقافة أيديولوجية وسياسية واسعة، من الماركسية إلى الماوية إلى القومية. وما لبث أن تبع قلبه منساقاً عندما قامت علاقة حب رائعة بينه وبين ابنة بشري الروائية هدى بركات: ابن الخيام يصير صهر بشري. وعلى امتداد تلك المراحل اسّس محمد العبدالله حيثيته الشعرية في الفضاء اللبناني والعربي. ولكنها حيثية لا ترتبط لا بعصبة، ولا بلقب ولا بجامع حزبي انها حيثيته كشاعر ترك الأيديولوجيا وتحرر من المدارس والمراجع الشعرية وصاغ لنفسه هوية غير مرتبطة لا بشعراء الجنوب ولا بأي انتظام آخر. انها الحرية العارية تنكبها محمد بلا انتماء مقنن، طائفياً كان أو مناطقياً، أو فكرياً. انه هو هكذا مجرد من كل الزوائد والالزامات الاجتماعية والعنف والقسمة والتنظير... جاء من الخيام من دون ان تصدمه المدينة. فكأنما كان يختزنها اختزاناً في أفكاره المتقدمة وفي مقارباته وفي علاقاته اليومية. انه الانخراط الداخلي الحميم ببيروت. وعلى الرغم من إرثه الجنوبي الجميل، إلا انه آلف الحوار عبر الحركة الطالبية أو الأيديولوجية، يساهم في صنع هذه المدينة. يراها من زاوية من يريد أن يغرق فيها وتغرق فيه. ان يؤانسها وتؤانسه؛ ان يعاتبها وتعاتبه، أن يساخرها وتساخره، أن يماررها وتمارره، ان يحتضنها وتحتضنه، أن يجافيها وتجافيه، أن يغادرها وتغادره. فبيروت صنو الخيام باتت جزءاً من طريقة حياته، من المقهى، إلى المسرح إلى السينما، إلى الكتاب، إلى الشعراء، إلى اللبنانيين والعرب، إلى الأرصفة، والواجهات، والمكتبات والمعارض ولعبة الصراعات وأشكال التعدد... ثم زمن الحروب والقتل والموت والحروب والطائفية. عندها كان لمحمد أن يركن مع الراكنين ويرفض مع الرافضين كل هذا الجنون والخراب والانتماءات الاستهلاكية.
كنا معاً حفنة من الكتاب والشعراء الذين خانهم الزمن والحلم وغدرت بهم المنقلبات، انهم الهامشيون المنتمون إلى القيم والبلد والحياة واللامنتمون إلى فورة القطعانية المستبدة، العمياء، المسيّرة، المنقادة بغرائز العنف. قضينا، نحن ومحمد العبدالله، وعصام العبدالله، وحسن عبدالله وعصام محفوظ وموسى وهبه وجودت فخر الدين.. أوقاتاً نقاوم فيها، بطرق شتى، لكي لا نصاب بوباء الحروب. لم تفرقنا الحروب التي خرقت البلاد. بقينا نحتمي بأنفسنا نحن الحفنة، وكأننا ندافع عن آخر ما تبقى من بيروت بعدما اجتاحتها قوى العنف وعملت ليس على ترييفها، بل على طمسها.
وكأن المقهى (أو ما تبقى من المقاهي) الموعد المضروب يومياً. نلتقي هناك. أو أحياناً كثيره في بيتي في الحمرا، وعندما غرقت المدينة كلها بالعتمة. لا كهرباء ولا ماء ولا شوارع ليلية. ركبنا بطارية كميون لنشعل لمبة، تضيء لقاءنا. انه محمد، كان نجم تلك الانزواءات بسخريته والتماعاته وتورياته وأحياناً كثيرة بطرائفه وبمفاجآته. وعندما سافر إلى باريس وزوجته هدى بركات، كأنما فراغ حط بلا مكان لغيره...
رفيق حروب ويأس وخيبة وعزلة ومواجهة محمد العبدالله. لم تؤثر الحروب في هامشيته بل عمقت لا انتماءه الحي. وهنا بالذات كان له أن يكتب نصوصاً لا تتصل سوى به، تلتهمها الوحدة والمرارة، لكن بلغة أقرب إلى اللامعقول، وإلى العبث وإلى مراجعة كل ما صنعنا وعملنا له.
هامشي، بين هامشيين وكل منا كتب هامشيته على طريقته، لكن الأغرب والأجمل والأنقى بيننا في هذا الاطار كان محمد. الأجرأ بنص تنصل من البلاغة والتزويق ليتروّس باصابته الواقع وشروط الحياة والمستقبل والموت. تصالح مع نفسه لكنه لم يتصالح مع تلك الظواهر المفخخة. وألقى من على كتفه التواطؤ والتملق والاسترهان نفضه. وهذا ما عبر عنه في كتاباته الاسبوعية في ملحق النهار والتي اعاد بها جو المقاربة اللاذعة هنا والساخرة هناك والطريفة هنالك. لكن في هذه الكتابات بدا محمد على يقظة عميقة بمجريات المدينة والبلاد والناس وموقعه ونظرته وسأمه وضجره وحيويته وغربته وغرابته وعزلته وانعزاله. فكأن الزمن لم يعد زمانه. ولا زمن رفاقه الهامشيين في الحروب وما بعدها. كأن الشارع لم يعد شارعه. ولا حتى القرية قريته ولا الثقافة النمطية الخاضعة المتواطئة الجامدة ثقافته.
هكذا كنت ألتقيه في الشارع، يمشي وكأن الشارع يمشي فيه، ينظر وكأن الواجهات تعكس وجها ليس من الفتها.. انها الغربة لم يعالجها. ولم يعاكسها. لم يألفها ولا ينفر منها. انها تلك اللحظات التي تمحى فيها الحدود بين الحضور والغياب بين الشيء واثره، بين الحياة وأوطارها. جسد كان يملأ الشارع، وصوت كان يملأ المقهى، وجلسة في المقهى كان لها الخاص والهيبة؟ لكن ماذا يفعل اذا لم يتبقّ له سوى الزمن ولم يعد يملكه، والبيت الذي لم يعد يملكه، والحلم الذي انتكسه، والعمر الذي وافاه بلا وفاء.
كأنما صار محمد، زائراً يسأل عن المدينة ولا يجدها، عن التاريخ ولا يجده. عن الجغرافيا ولا يجدها. عن الحياة وتفلت من عينيه.. بات كأعزل، هش، استفرسه المرض، وتنكبه الضعف، لكن بقي محمد على حاله، ساخراً حتى من المرض الذي لا يجرؤ احدٌ على السخرية منه، ومن الحياة التي لم تعد من متاعه ومن دربه. أيواجه المرض؟ ايخضع للعلاجات التقليدية وقد فتك به المرض من كل جانب وباطن؛ عرف انه على مشارف النهايات. لكنه رفض تلقي العلاج الكيميائي وحافظ على السيجارة وكل ما كان يطيب له ان يبقى معه حتى النهاية. لا علاج كيميائياً ولا عمليات. ما بدي اشحد من الله كم يوم هذا ما قاله للطبيب الذي اراد أن ينقله إلى المستشفى في أيامه الأخيرة.
تركنا محمد كما يتركنا جزء منا رأى الحروب ولم يحفظها، والعنف لم يحاذه، في حياة هي حياة الشاعر الذي لم يبق له من متاع أخير سوى السيجارة.. والقلم والورقة وهذه النظرة الساخرة من كل شيء.
ب. ش