خصّ الوزير السابق باسم السبع موقع "لبنان الكبير" برسالة خاصة الى الرئيس الشهيد رفيق الحريري، كتب فيها:
"دولة الرئيس أبو بهاء،
أقصدك للمرة الاولى من خارج لبنان وأنا حزين حتى الموت، أحمل فوق أجنحتي المكسرة شوقاً لا حدود له، ورثاء للوفاء وصندوقاً مليئاً برسائل الاعتذار والخيبة والأحلام الممزقة والحقائق المرة.
عذراً اذا كانت رسالتي خالية من الأخبار الجميلة. فليس عندي ما يُفرح القلب، لا على المستوى الوطني ولا على مستوى العائلة الحريرية والقضايا التي أفنيت عمرك دفاعاً عنها والمؤسسات التي وهبتها جهدك ونبلك وكرمك وجعلتها علامة فارقة في العطاء الاجتماعي والانساني.
لبنان، يا دولة الرئيس ليس بخير، وشعبه الطيب الذي استودعته الله سبحانه، خطفه شياطين السياسة ومرجعياتهم الخارجية الى جهنم. اللبنانيون في عز البهدلة المعيشية والحياتية. تائهون في العتمة الاقتصادية والضلال السياسي، يفتشون عن فتات الحياة الكريمة على أبواب المصارف وساحات الغضب وفي مستوعبات الأحزاب وصناديق الاغاثة، ثم يتبارزون في حلبات الكراهية لاستخراج العفن من بطون الطوائف ونشرها على حبال التواصل الاجتماعي.
وبيروت ليست بخير. لم يرتفع فيها حجر واحد منذ رحيلك. صارت أشلاء مدينة منهكة تترنح بين الفوضى والثورة. أطفأوا أنوارها وأسواقها وقلبها الذي بنيته وتقيم فيه الى أبد الآبدين. سدوا أسوارها بوجه الناس وطردوا منها السياحة والسياح والمطاعم والمقاهي ورواد الحياة ونكّسوا فيها أعلام الفرح والإعمار والاستثمار لترفرف مكانها البيارق السود. مرفأها مات بالضربة القاضية ومطارها الذي يحمل اسمك عليل بداء الارتباك والفوضى ونقص المناعة وجامعتها التي سميت على اسمك أيضاً، أقاموا فيها فرعاً للتخصص بانتاج الكبتاغون التربوي.
بعدك، وقعت البلاد بمن عليها في حفرة السان جورج. استدرجها قادتها وأحزابها وطوائفها ومصارفها وكهنتها ومشايخها وسادتها الى حقول الكيدية والانتقام والفساد والتعطيل… واستفحل الإنكار حتى انفجر الغضب الرابض في الصدور.
لم تبقَ خيمة فوق رأس أحد. رذاذ السب والشتائم والتحقير والتخوين أصابت كبار القوم وصغارهم، وأسقطت هيبة من يعتقدون أن هيبتهم معصومة وممنوعة من السقوط.
الكل يقيم في الحفرة الآن، حتى أولئك الذين نصبوا لك فخ الأطنان المتفجرة، جذبتهم الحفرة اليها واحداً تلو الآخر، قامت مقام المحكمة الدولية فطاردتهم ونفذت بهم الحكم العادل وأغرقتهم في بحر اللعنات الحريرية.
اذا سألتني عن مهجة روحك سعد، أخبرك أنه ليس بخير أيضاً. بايعوه من دارك في الرياض وتركوه يصارع الأزمات وحيداً في بيروت، ترافقه الأخت والعمة والأم حمَّالة الأسية الست بهيه، ويأنس لأيمن دون سواه ساعة الشدة. زوجته لارا تصرفت كما لو أنه مكلف بمهمة انتحارية، سلَّمت أمورها لرب العالمين وأودعته الرحمن الرحيم وتفرغت لتربية الأولاد في المملكة وابعادهم عن خطوط التوتر. لقد كبروا في غيابك وغيابه. حسام الذي جلت معه طفلاً في وسط بيروت ليعرف ماذا أنجز جده صار نسخة عن أبيه. لولوه صبية تواصل تحصيلها الجامعي في الولايات المتحدة، وعزوز رجل البيت في الرياض.
حِملُ سعد كان ثقيلاً. ليس سهلاً على أي انسان حَمل أثقال رفيق الحريري، وما كان سهلاً على ابنك قيادة سفينة في محيط من الرمال المتحركة.
كبر الارث السياسي بين يديه وانتشر على مساحة لبنان، وتهاوى الارث المالي والعائلي تحت وطأة التحديات بشتى فصولها وتقلباتها وأطماعها.
قرر الخروج من الحلبة بعد أن استنفد طاقته وصبره وطيبته ونبله وماله وسلامة مقاصده. لعلك شعرت بغصته، بحشرجة الكلمات في حنجرته قبل أيام، بالظلم الذي وقع عليه، بالغدر الذي تعرض له، بالعجز عن الدوران في الحلقات الفارغة، واليأس من التعاون مع قوى اليأس والإنكار والهروب والتعطيل وفنون الكيد السياسي. أفترضُ أنك بكيتَ لبكائه، وفرحت لخروجه من مستنقعٍ لطالما أفصحت أنت عن رغبتك في تركه والتخلص من طحالبه.
أما بهاء فيتصرف أنه بخير، وهو ليس بخير. ماهرٌ بهاء في الاساءة لك ولنفسه ولعائلته. ومحزن جداً الرفض الواسع لسلوكه، والانطباع السائد لدى جمهور واسع من اللبنانيين بأن طموحه محصور بالاستيلاء على الملك السياسي لشقيقه، بدليل أن المال الذي اشترى فيه خدمات شاشتين تلفزيونيتين كبيرتين ووجوهاً اعلامية تعمل على القطعة وبعض الأزلام اللاهثين خلف الادوار، هذا المال ليست له وظيفة سوى أن ينكسر سعد. حبذا لو كان الانطباع خلاف ذلك، وحبذا لو مد يده الى يد سعد لمصافحتها لا لقطعها، لكانت البشرى تليق بك وبالمسيرة التي عمدتها بالدم.
قليلة هي المناسبات التي التقيته فيها بعد العام ٢٠٠٥، وآخرها كانت في الرياض لمناسبة إشهار زواجه الأخير بحضور ولي أمر العروس ووالدها واخوتها وولي أمر العريس الشيخ سعد. اعتقدت حينها أن جرح الشاب قد التأم وأن علاقته بأخيه تتقدم على أي اعتبار وأن أبناء رفيق الحريري لن يغدروا بأنفسهم وتاريخ والدهم مهما بلغت حدود الخلافات الخاصة. رهاني على هذا الاعتقاد لم يعش طويلاً، وهو رهانك على ما أذكر، يوم كلفتني العام ١٩٩٤ للدخول على تقريب وجهات النظر بين الأخوين، وخلاصته أن بهاء بركان يمكن أن ينفجر في أي وقت، لكن سعد جدول هادئ يروي من حوله بكل طيبة خاطر.
قرر البركان أن ينفجر بشقيقه وربما هناك من استدعاه لهذه المهمة. والتصرف في الحالتين من علامات الآخرة في السياسة وليس من علامات الخير والبدايات الصالحة. يكفي أن نسمع منه أنه يريد استكمال مسيرة الوالد بعد انقطاعه عنها ١٧ سنة. بهاء يدعو الناس للرجوع معه ١٧ سنة الى الوراء لاطلاق مشروعه… أبشروا أيها اللبنانيون!!.
العزيز أبو بهاء،
الأقدار هي التي حملت ابنك سعد الى سدة المسؤولية، ولو كانت الأقدار سمحت بتقدم بهاء، لكنا اذا شاء الى جانبه نخوض غمار السياسة وأهوالها، نجاحاتها وسقطاتها، حلاواتها ومراراتها كما خضناها مع سعد.
وسعد هو أمانتك، أمانة رفيق الحريري عندنا، عند محبيه وجمهوره ورفاق دربه. وجدناك فيه، كرماً وطيبة وصدقاً وتواضعاً واصراراً على النجاح.
لم يحب السياسة كما أحببتها ولم يكتشف مغاورها كما فعلت ولم يتعامل مع ثعالبها كما تعاملت، لكنه أحب الناس وأحبوه. بقي معهم يقصدهم الى مناطقهم وبيوتهم يخاف عليهم ويخافون عليه، يفرح لفرحتهم ويحزن لحزنهم. واجه بصدره رياح الاغتيال، وبكى الشهداء الذين التحقوا بك واحتضن عائلاتهم وكرم ذكراهم ورفع قضاياهم لأعلى المحافل.
دفعه صدقه الى الاعتراف بمحدودية خبرته السياسية، وقصوره عن مجاراة آلاعيب الحلفاء والخصوم، لكنه كان يتقن فن العودة اليك طارحاً السؤال الذي تكرر أمامنا عشرات المرات؛ ماذا كان رفيق الحريري ليفعل في هذه الحالة، كيف يتصرف، هل يرفض أم يوافق، يهاجم أم يهادن، يحاور أم يناور؟. كنت بوصلته وقاموسه ودليله في المواجهات والتسويات وقراءة المخاطر واستيعاب الازمات.
القدر رمى سعد الحريري في حلبة السياسة، وها هي روحك تُبعده عنها ولو الى حين.
كان يردد في الأشهر الأخيرة، أن الوالد يستحيل أن يبقى أسير الفشل عندما يتحكم بمفاصل الدولة والمؤسسات والعمل السياسي. لا يقبل رفيق الحريري على نفسه أن يصبح عاطلاً عن العمل، يتفرج على دولة يتآكلها الانهيار وهو عاجز عن كسر حلقات التخريب والتعطيل. بين ١٩٩٨ و٢٠٠٥ عطلوا مشروعه بالكامل وخيّروه بين السجن أو الرحيل، رموه بشتى الاتهامات ومنعوه من التواصل مع جمهوره في المناطق. أخرجوه من الحكم وحاولوا اسقاطه في الانتخابات… خاضها ونجح. لكنهم أصروا على حصاره فعطلوا تطبيق "باريس ٢" تماماً كما عطلوا مؤتمر "سيدر"، وأجبروه على التمديد لاميل لحود لأنه يكره الفراغ… ألم يفكر حينها بترك اللعبة لأصحابها؟. نعم فكّر بذلك وكانت قابليته للخروج والابتعاد لا حدود لها.
أنا سعد ابن رفيق الحريري لن أسمح لنفسي الاستمرار في لعبة شد البلاد الى قعر جهنم. ولن أعطي نفسي الحق بأن أفرض على اللبنانيين البقاء في حلبة العراك الطائفي والسباق فوق ركام الدستور والقانون الى أبد الآبدين، أو حتى تستقيم العلاقات الايرانية - الاميركية على كلمة سواء وتعود طهران الى حظيرة الاتفاق النووي.
قبل ٢٠١٩ قلت؛ رفيق الحريري كلفني حماية لبنان وليس جره الى حرب أهلية. وبين الحرب وخروجي من السلطة اختار الخروج من السلطة والسياسة برمتها. لن ألطخ يدي بدم أي لبناني، ولن أقبل بتحويل بلدي وأهلي وطائفتي الى حطب في الحريق السوري. بعد ١٧ تشرين ٢٠١٩، أدركت خطورة المراوحة في الأزمة، وقررت الاستقالة متحملاً المسؤولية تجاه عشرات آلاف المواطنين الذين عبروا عن نقمتهم في بيروت والمناطق وافساحاً في المجال امام أية فرصة لخرق الجدار المسدود. تعطلت الفرصة مجدداً بعد انفجار المرفأ وجاءتنا المبادرة الفرنسية بحبل النجاة… قطعوا الحبل وسقطت البلاد الى قعر جهنم. هل كان رفيق الحريرى ليبقى شريكاً في السقوط نحو القعر؟ حتماً لا. وأنا سأنفذ ما ترتضيه روح الوالد.
انه ابنك سعد يا أبا بهاء. ابنك الذي أعطي له مجدك وعزك وقلبك وصبرك. ابنك الذي تسلم الأمانة في غيابك ورعاها ودافع عنها في أحلك الايام وأصعبها. أمانة اجتمع على تسليمها نادي الاصدقاء في الداخل والخارج يتقدمهم جاك شيراك وعبدالله بن عبد العزيز وحسني مبارك ووليد جنبلاط وباسيل يارد وفريد مكاري ورعيل ممن رافقوك وكسرهم غيابك. أمانة مهرتها العائلة بختم الدعم والتأييد، وواكبها الحلفاء والاصدقاء من كل الاطياف والمشارب.
أعلم أنك لم تحب له، أو لبهاء، أن ينخرطا في السياسة، وقد تلوّعتَ من تقلباتها ومفاسدها وغدرها وحسادها. لكن لوعة اللبنانيين وحسرتهم على رحيلك وخوفهم من المجهول الآتي بعدك، دفعهم باصرار الى التمسك بخشبة الثقة وعنوانها الحريري… فكان سعد لهذه المهمة.
تعلم أيها الغالي، أن أيام سعد في الحياة السياسية كانت قاسية وصعبة، تفوق بقسوتها وأضرارها الأيام التي مرت عليك. أنت دخلت فوق بساط عربي ودولي آمن لترفع آثار الحرب الاهلية عن لبنان وتساهم في تطبيع قواها مع السلام الاهلي. هو تسلم نعشك وأرضاً مزروعة بالألغام والانقسام، وأحوالاً محفوفة بالمخاطر والاصطفافات المذهبية، وسلطة صادرتها المصالح الاقليمية على حساب الشرعية والدستور.
صحيح أن وهجك الوطني كان حاضراً معه، وأن حركة الرابع عشر من آذار منحته القدرة على خوض التحدي، والوقوف على رأس أوسع حركة شعبية بتاريخ لبنان… لكن الصحيح أيضاً أن البلاد كانت تتهيأ للانقلاب على نفسها، وأن سيوف الغدر بسعد والرابع عشر من آذار بدأ شحذها ايذاناً بافتتاح الفيلم الايراني الطويل.
هل تعلم، أنه بعد سنة على دخول سعد المعترك، انقلب السحر الاقليمي على الاجماع الوطني الساحر في ١٤ آذار، فكانت حرب تموز وما نشأ عنها من تفسخ طائفي وخراب دستوري، تفوّق على الآلة الحربية الاسرائيلية في تدمير الهيكل السياسي للدولة اللبنانية؟.
مع حرب تموز دخل لبنان عصر الثلاثية الذهبية الايرانية؛ جيش وشعب ومقاومة، وبدأ ولدك سعد يستشعر ترددات الزلزال الآتية من الغرف السورية - الايرانية المشتركة لتنظيم حملات الاغتيال. حاول حماية النواب من التصفية وأنشأ لهم منطقة آمنة في رأس بيروت، بعد اغتيال النائب جبران تويني ثم النائب بيار الجميل فالنائبين وليد عيدو وانطوان غانم. تسعون في المئة من الاغتيالات استهدفت اقتلاع سعد من المعادلة. قتلوا النواب الذين لازموه في قريطم والرموز الأساسية في فريقه الأمني والسياسي، وسام عيد ووسام الحسن ومحمد شطح.
الاصابات كانت مباشرة والتداعيات جاءت كارثية. وحلت في هذه الاثناء غزوة بيروت في السابع من ايار ٢٠٠٨ ومحاصرة سعد ورفاقه في قصر قريطم.
كيف لشاب لم يبلغ من عمره السياسي ثلاث سنوات أن يتعامل مع أحزاب ووحوش مدربة على فنون الحروب الأهلية؟.
وصل الليل بالنهار وهو يرصد تفاصيل اجتياح مدينته واستفزاز أهلها، والساعات القليلة التي خلد فيها للنوم أمضاها على كنبه في صالونه الخاص. حاصروه ورشقوه بالرصاص والقذائف. هاجموا جريدة "المستقبل" في الرملة البيضاء وأحرقوا تلفزيون "المستقبل" في الروشة وشكوا أعلامهم الصفراء على تمثالك في السان جورج... لكنه لم يغادر. لم يقبل بمنفذ آمن الى منطقة آمنة. قال؛ لست أهم من والدي، وعندما أسقط احجزوا لي مكاناً الى جانبه.
والشيء بالشيء يذكر عن تلك المرحلة، أن أحد اخوة سعد قرر الادعاء عليه لتسديد دين له في ذمته. اتصل سعد بأخيه قائلاً؛ مالك ستحصل عليه، لكنني الآن محاصر ومعرض للخطر. أجابه الأخ… وكيف يصلني المال اذا قتلوك!! …… آخ على هكذا أخ.
جرح بيروت فتح ثغرة لمبادرات عربية وتركية، تكللت باتفاق الدوحة الذي دعي سعد من خلاله الى تدوير الزوايا وتقديم التنازلات برعاية عربية وتغطية دولية.
لقد كنت يا أبا بهاء مهندس اتفاق الطائف، اما سعد فقد هندسوا له اتفاق الدوحة لطي صفحة الطائف.
رد سعد على الدوحة بالانتخابات النيابية العام ٢٠٠٩. حقق فيها انتصاراً ساحقاً يشبه انتصارك في انتخابات العام ٢٠٠٠. لم يُسمح له ولحلفائه تشكيل الحكومة وفق الأصول الديموقراطية، حتى لو ترافق التشكيل مع ترتيب سعودي لمصالحة عربية اقتضت ذهاب سعد الى دمشق ومصافحه بشار الاسد.
عندما وصله الإشعار السعودي بالذهاب الى دمشق، بواسطة صاحب الفكرة والمشرف على تنفيذها الامير عبد العزيز بن عبدالله، بكى سعد يومها بمرارة، وردد بين جدران مكتبك في قريطم؛ ماذا سأقول لرفيق الحريري؟. ماذا يمكن أن يقول لي؟… سيقول لي افعل ما يطلبه الملك عبدالله.
حاول سعد كسب مزيد من الوقت، لعل وعسى، فطلب من الملك مباشرة ارجاء الذهاب الى ما بعد الانتخابات النيابية. جاءته الاستجابة على مضض من الامير عبد العزيز. قرأ وليد جنبلاط في هذا المشهد متغيرات تتهيأ لها المنطقة فقرر أن يسبق سعد الى قصر المهاجرين لتبدأ بعد ذلك رحلة دفع الأثمان.
أغلى الاثمان كان انفراط عقد تحالف الرابع عشر من آذار، بعد الانتصار الذي أحرزه في الانتخابات النيابية.
لم يشفع اتفاق الدوحة لسعد، ولم تشفع له زيارة دمشق، ولم تشفع له نتائج الانتخابات.
طغيان السلاح تغلب مرة جديدة على الدستور والشرعية والنظام الديموقراطي. فُرضت معادلة الثلث المعطل وبدعة الوزير الملك على التشكيلة الوزارية برئاسته. تحولت المعادلة الجديدة الى قاعدة للابتزاز ومنها تم توجيه الضربة لحكومة سعد أثناء اجتماعه في واشنطن مع الرئيس الاميركي باراك اوباما.
قرر الضربة "حزب الله" وأعلنها جبران باسيل من الرابية برعاية ميشال عون، واستكملت باختيار نجيب ميقاتي لرئاسة حكومة سميت "حكومة حزب الله"، فغادر سعد الى الرياض لفترة استراحة وتشاور، خرقتها أحداث الربيع العربي التي بدأت في تونس وانتشرت في ديار أخرى.
ثلاثة أشهر فقط فصلت بين إقصاء سعد بقوة الثلث المعطل وبين اندلاع الثورة السورية. الحدث كان مدوياً، والفرحة لدى سعد وجمهور كبير من اللبنانيين كانت مدوية أيضاً.
رابط سعد في منزله في الرياض، يتقصى أخبار سوريا والانتفاضة الشعبية المتنقلة من مدينة الى مدينة. بدا بشار الاسد قاب قوسين أو أدنى من السقوط على وقع تحركات شعبية سلمية لا سابق لها. انتشرت ارادة التغيير الديموقراطي في المجتمع السوري انتشار النار في الهشيم. قرر سعد مد اليد الى قوى الثورة المدنية ومساعدتها على تقديم مشروعها السياسي وقد ساهم فعلاً في تشكيل مجموعة عمل سورية - لبنانية مخصصة لاعداد ورقة سياسية لائتلاف قوى الثورة...
الشعور الأولي الذي انتاب فريقنا السياسي في حينه، أن الشعب السوري يثأر للشعب اللبناني من نظام الاسد، وفي عناوين الثأر الانتقام لاغتيالك في ١٤ شباط.
الشعور كان على قياس التمنيات، فلم يتطابق مع التقلبات التي شهدتها الساحة السورية. دخلت ايران بحرسها الثوري وقواها المنتشرة في لبنان والعراق لتتسلم زمام الدفاع عن النظام، وأُخليت قوى التطرف من السجون السورية لتتصدر "داعش" قيادة الثورة في وجه النظام.
أدرك سعد أن الرياح تجري بما لا تشتهي سفن التغيير السوري، وأن القوى الدولية العسكرية المتدفقة الى سوريا أوكلت مهمة حماية النظام الى القيادة العسكرية الروسية، وأن الاحتضان الغربي والعربي لقوى الثورة آخذ في التلاشي، وأن النظام نجح في نقل المعركة من اشتباك مع الثورة الى معركة حياة أو موت مع "داعش".
في تشرين الاول ٢٠١٢ تم اغتيال اللواء وسام الحسن في قلب الاشرفية في بيروت بعد أقل من شهرين على توقيف الوزير السابق ميشال سماحة بنقل متفجرات من سوريا بايعاز من مسؤول المخابرات اللواء علي المملوك لاستخدامها في اغتيال شخصيات شمالية. كنا مع سعد في جدة. طلب الاستعداد للمغادرة الى بيروت للمشاركة في وداع وسام. جاءه اشعار من القيادة السعودية بعدم السفر لدواعٍ أمنية.
في كانون الاول ٢٠١٣ تم اغتيال محمد شطح على بعد مئات الامتار من بيت الوسط. أصداء الرسالة وصلت الى سعد في الرياض… المطلوب رأسك. طلب الاستعداد للنزول الى بيروت للمشاركة في وداع محمد. تبلغ من جهات سعودية عليا أنه ممنوع من السفر لدواعٍ أمنية. "الخطر على حياتك قائم، والملك يريدك أن تبقى في الرياض، واذا حاولت السفر هناك قرار بمنع طائرتك من الاقلاع".
بحلول العام ٢٠١٤ تصاعدت مشاركة "حزب الله" في الحرب السورية والاعلان عن انتقال آلاف المقاتلين لدعم النظام. الرد على المشاركة نفذه تنظيم "داعش" بسلسلة تفجيرات استهدفت الضاحية والسفارة الايرانية في بئر حسن.
تدخلْ "حزب الله" في سوريا حصل على تغطية اقليمية ودولية، بدليل قدرته على التحرك وفعاليته في نقل الآليات والمقاتلين والاسلحة الثقيلة على مرأى من الاقمار الصناعية والرصد الجوي.
قيام "داعش" بتولي نقل الحريق السوري الى الداخل اللبناني، لم يأتِ صدفة وربما كان في سياق مخطط لاشعال الساحة اللبنانية.
أواخر العام ٢٠١٤ سمعت من سعد الآتي: لقد خسرنا الحرب في سوريا. الجميع تخلى عن الشعب السوري. الأولوية لحماية النظام وقتال "داعش". نجح النظام في تقديم الثورة لـ"داعش" ونجحت "داعش" في تقديم رأس الثورة للنظام...
هذا العام كان مفصلياً في توجهات سعد. منه انطلق البحث عن حزام أمان للبنان، ومنه سار سعد على خطاك لحماية البلد. فيه بدأ الفراغ الدستوري في موقع رئاسة الجمهورية ومنه بدأ سعد رحلة البحث عن ملء الفراغ.
ربَطَ النزاع مع "حزب الله" بعد تفجيرات طرابلس والضاحية، واشتعال جبهة التبانة - بعل محسن، وحوادث عبرا في صيدا، والاشتباكات المتنقلة بين بربور والمزرعة، وتبادل اقامة الحواجز بين المدينة الرياضية والضاحية، وتسليط أضواء الارهاب على عرسال وارتفاع منسوب الاحتقان المذهبي لأعلى المستويات.
اجتهد سعد في ربط النزاع مع حزب متهم باغتيال والده. لم يكن الاجتهاد من بنات أفكاره، انما جاء محصلة لنقاش معمق مع فريق عمله في الرياض التي شهدت أكثر من زيارة لممثلي الثنائي الشيعي بهدف الاجتماع مع سعد والتدوال في الآليات المتاحة لتخفيف الاحتقان.
ولو كانت مقاعد مكتب سعد في الرياض تنطق، لنطقت بأحاديث شخصيات أمنية وسياسية حضرت من بيروت وتطوعت لخلافة وسام الحسن في مهمة التواصل مع "حزب الله"، في ما هي "تُفحش" اليوم في اعلان رفضها لربط النزاع. شاركوه في انتصاراته وحصدوا ما ملكت أيديهم وحاسبوه على الخسائر.
أنا لا أتقدم من دولتك بمرافعة لتبرئة سعد من سقطات واخفاقات السنوات الأخيرة. فأنت أعلم من سواك بسعد، وبأن معظم الاقطاب في تاريخ السياسة اللبنانية ارتكبوا سقطات لا تعد ولا تحصى. السياسة كرٌ وفر، لكنني أجتهد على طريقتي لأقول؛ ان ثقافة التسويات وشراء الوقت والازمات وتدوير الزوايا لتجنب الأسوأ والتنازل للخصم بنية تحقيق مصلحة عامة وتمرير مشروع حيوي للبلاد، هي ثقافة حريرية بامتياز، مارستها دولتك مع "حزب الله" ومع القيادة السورية ومع اميل لحود وحتى مع الحلفاء والمقربين والاصدقاء الذين ناكفوك وقصفوك بأقسى الكلام متخذين من البرلمان منبراً للنيل من سياساتك الاقتصادية، وارتضيت وجود ودائع سورية في كتلتك وداخل قصرك وتقديم حقائب وزارية من حصة السنة لوزراء من "البعث" والحزب "القومي".
الناقمون على ابنك يا دولة الرئيس نوعان: نوع يلتحف عباءتك واسمك وسيرتك، ويراها عباءة سنية لا وطنية، للحصول على نطفة من الارث السياسي الذي تركته لسعد، ونوع التحف عباءته وتدثر نعمته ونام في أسرته وأكل على مائدته وفي يده خنجر مسنون يستخدمه عندما تحين ساعة الخيانة.
النوعان يلتقيان على قاسم مشترك يريد تحميل سعد ذنوب المرحلة الماضية خصوصاً بعد انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية.
ليس المقصود أن كل من خالف سعد مخطئ أو خائن وغدار، ولا كل من خرج من صفوفه متواطئ عديم الوفاء. هناك من خالفه وصارحه ولم يتركه لغدر الزمان وطعنات الشامتين، وهناك من خالفه وصارحه عن قناعة وسابق معرفة وخوف وتركه نهباً للمصطادين في الماء العكر. وفريق من هؤلاء تعمد أذيته والتشهير بسلوكه والتنكيل بسمعته وما ملكت صدور البعض من ضغينة على سعد.
غفروا لأنفسهم كل الذنوب التي ارتكبوها وشاركوا فيها وتقدموا عليه أشواطاً في ارتكابها، ليحملوه ذنباً واحداً هو التسوية مع ميشال عون.
عرض عليهم التسوية مع سليمان فرنجية فرفضوه. أعلن سمير جعجع ترشيح نفسه للرئاسة فمشى به أربعون جلسة. نصحهم بتسويق التوافق مع بكركي على أمين الجميل فغضبت معراب.
قد تكون خيارات سعد غير موفقة فيها الكثير من روح المغامرة، وقد "عوقب" عليها ووجهت له سهام الاتهام والغدر والاهانة من القريب والبعيد. لكن ماذا كانت خيارات الحلفاء والمحيطين والمقربين والمحبطين وفرق المزايدة باسم الطائفة والعائلة والحريرية السياسية والخط السيادي؟.
وجدوا الفراغ مخرجاً فرآه لعنة، فذهبوا الى ملئه بالجنرال ثم قرروا اختزال حياة سعد السياسية بالتسوية معه.
تناسوا التحديات التي واجهها والهدايا السياسية التي قدمها والأثمان التي دفعها من صحته وكرامته وماله وأرزاقه، وتناسوا المخاطر التي اقتحمها والألغام التي فككها والفتن التي أخمدها والعلاقات التي أنجزها والمواقف التي أعلنها. تناسوا دوره في تأهيل لبنان للنهوض الاقتصادي، وأبواب العالم التي طرقها وسار نحوها على خطاك وصولاً الى مؤتمر "سيدر". تناسوا وتناسوا… ولم يبق في جعبتهم سوى "أم الذنوب": التسوية مع ميشال عون.
وكأن التسوية لم تفتح شهية البعض لمغازلة "حزب الله" والاشادة بوزرائه واعتباره مكوناً لبنانياً لا يصح تخطيه. وكأن التسوية صنعت فقط في بيت الوسط، ولم يستحضر الناقمون موادها الأولية من خزائن أفكارهم وارشاداتهم وتفاهماتهم السياسية وصفقاتهم على توزيع الادوار والمغانم.
هل تُخبرهم يا دولة الرئيس عن التسوية التي نظمتها مع اميل لحود وزيارته السراي الكبير والتعهدات التي قدمها لك؟ هل تخبرهم كيف فرض بشار الاسد التسوية عليك للتمديد لاميل لحود؟. وهل تخبرهم أنك اخترت القبول بالتمديد لتجنب تكسير بيروت على رؤوس أهلها؟.
آه يا أبا بهاء. لو كان في الامكان أن تخبرهم أن سعداً مشى على دربك واقتدى بسيرتك وسمع من لسانك أنك انتخبت لحود لأن الفراغ قاتل. وآه لو يعلموا كيف تصرف سعد رفيق الحريرى ليلة انتهاء ولاية لحود ومغادرته قصر بعبدا، ليلة اعترض على أجواء الفرح التي سادت قريطم قائلاً؛ أنا حزين وخائف… رئاسة الجمهورية صارت من دون رئيس، وقعنا بالفراغ. علينا أن نخاف لا أن نفرح.
أعلن سعد تعليق العمل بخياراته وقرر اعادة الأمانة الى صاحبها الاصلي وسحبها من التدوال في أسواق النخاسة والنجاسة السياسية.
انه يعيدها اليك، أنت دولة الرئيس رفيق الحريرى، لأنك ما زلت الزعيم الأبرز في لبنان وصاحب الرؤية التي لم تتكون من بعده رؤية.
انهم يتهيبون غيابك كما تهيبوا حضورك. هل أنت فعلاً على قيد الحياة؟!.
يتحدثون عنك كما لو أنك لم ترحل ويسلطون عليك ألسنتهم وأقلامهم لتحميلك تبعات انهيار صنعه العهد القوي والحزب القوي والصهر الشقي
ينتقدون انجازاتك لا لشيء سوى أنها تحمل اسمك. ينامون على اسمك ويستيقظون عليه، يرونك كيفما تحركوا. في المطار الذي وسعته فبهدلوه، وفي المرفأ الذي أضأته فأحرقوه، وفي الجسور التي بنيتها والملاعب التي شيدتها والمستشفيات التي افتتحتها والطرقات التي ينتقلون عليها الى مناطقهم وبيوتهم ومكاتبهم وأشغالهم… يهز أبدانهم اسم رفيق الحريري. لم يصدقوا كيف انتهيت، فجاءهم سعد. بقي فوق صدورهم ١٧ سنة الى أن قطعوا أنفاسه وأنفاس البلد، فترك لهم جهنم على من فيها.
أصبح سعد مبدئياً في الأمان. لكنه ليس بخير لأن العائلة ليست بخير. مؤسف جداً أن بعض الأبناء لم يكتسب من تربية رفيق الحريري ذرة قيم.
نحن الذين رافقناك وأحببناك، يوجعنا أن تكون عائلة رفيق الحريري، وابنه الأكبر تحديداً، نهباً لما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي وأداة في حملات الاساءة لارثك الوطني.
عذراً أبا بهاء على الدخول في أمور تخص البيت الداخلي، وقد كان بيتك بيت كل اللبنانيين، وهو استمر كذلك من قريطم الى بيت الوسط الى مجدليون.
نرفع اليك الشكوى لأن الضرب في الخواصر يوجع، ولأن رفيق الحريري لا يستحق ضجيج داحس والغبراء في أروقة الاولاد.
يعزينا أن ولدك سعد طيب القلب عفيف اللسان واسع الصدر، لم يخطئ بحق أحد، حتى وهو يتلقى الطعنة تلو الطعنة.
حفظ رأسه في لعبة الأمم. نفض عنه وحول التجربة المرة. تحرر من أعباء مرحلة طحنت عظامه وسدت شرايين قلبه. ترك الوحول لأصحابها والسلطة للمتباكين على الصلاحيات والانتخابات لمن يستحق ومن لا يستحق، وقرر أن يبدأ حيث بدأ رفيق الحريري.
أبا بهاء،
بعد ١٧ عاماً من الانتظار، أستأذنك القول اننا لن ننتظر على ضفاف النهر بعد اليوم. لقد فاضت مياه النهر ودخلت بيوت الأحزاب والرئاسات والقيادات والنواب والوزراء ورجال الدين والقضاء والأمن والاعمال. لم تستثنِ منهم أحداً. جرفت في طريقها ثلة من حرس الاغتيالات والحروب الاهلية على الخط الايراني بين العراق وسوريا ولبنان. المياه صارت ملوثة والكل يسبح أو يتخبط فيها. مبارك النهر على السباحين القدامى والضيوف الجدد… لقد خرج سعد وغادر الضفة".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.