كتب محمود القيسي:
<<أجلس ساكناً / عليك أن تعتمد على القراءة، المعرفة، الحرفة، الصبر / حيث أن الصبر يربط الوقت بالأبدية./ كل القراء الذين يستسيغون قصائدك / شكّك بحكمهم / تنفس النفس غير المشروط /الهواء غير المكيف / تجنّب السلك الكهربائي / تواصل ببطء / عش حياة ثلاثية الأبعاد / يحجب المكان الذي يتواجد فيه / ليس هناك أماكن غير مقدسة / هناك فقط أماكن مقدسة / وأماكن تم تدنيسها / تقبل ما يأتيك من الصمت / من الكلمات الصغيرة / التي تأتي من الصمت / كالصلوات العائدة إلى من يصلي / اكتب قصيدة لا تزعج الصمت / الذي أتت منه.>> *ويندل باري.. قصيدة "كيف تصبح شاعراً"..
الوطن هو المكان الذي لا يبلغ فيه مواطن من الثراء ما يجعله قادراً على شراء "مواطن"آخر كما يقول جون جاك روسو، ولا يبلغ فيه "مواطن" من الفقر ما يجعله مضطراً أن يبيع نفسه أو كرامته أو صوته. الوطن هو رغيف الخبز والسقف والشعور بالانتماء، الدفء والإحساس بالكرامة.. ليس الوطن أرضاً فقط، ولكنه الأرض واللغة والحق معاً. أصبح المواطن اللبناني في أيام "التراجيديا الاغريقية" هذه يبحث عن جدوى الوجود في الوطن المضرج بالدماء والجوع والفقر والمرض والنزوح والهجرة لمن إستطاع إليها سبيلا.. حيث فقد الإنسان الفرد في بلاد جبران خليل جبران صاحب كتاب "النبي" حقوقه وقيمة التمتع بالحياة.. والتي أصبحت حياة الفرد التي يجب ان تكون على جانب كبير من الأهمية، لا معنى لها في عهد أصبع السيد.. وجزمة الجنرال. لبنان، الوطن "الكبير".. صُلب في عهد جنرال "العونية" على ورقة "تآمر" مار مخايل، على رغيف الخبزِ، وعلبة الدواء، وزوارق الموت كلما أشتد الحصار.. كلما اشتد حصار الجوع على علبة حليب الأطفال الرضع التي تجاوزت كل حصار.. عهد المربعات الطائفية من أجل كرسي من هنا وكرسي من هناك.. قرن من أجل كرسي.. قرن من أجل اللاشيء. أنشأت سويسرا بنك "الوقت" كضمان إجتماعي للناس.. عندما يحتاج شخص مساعدة يرسل له البنك متطوعا ليخدمه ويخصم "الوقت" من حسابه.. في لبنان اللصوص والحرامية.. عصابات أوليغارشية المال السياسي والسياسة المالية.. سرقوا أموال الناس وودائعهم على عيون تجار العهد.. شركاء الأوليغارشية المالية. في حين يموت أطفال لبنان هذه الأيام السوداء من شدة الجوع والذل والبرد… وتموت الأجنة في أرحام الأمهات.. يعمل علماء معهد "سوتشو" الصيني للهندسة الطبية الحيوية والتكنولوجيا على تطوير "أرحام روبوتية لأجنة بشرية" بهدف رفع مستوى السلامة والتطور الجيني في الأرحام-الأرحام الاصطناعية. يقول مارسيل بروست: "عندما لا يبقى شيء من الماضي القديم، بعد موت الكائنات.. تظلّ الرائحة والنكهة، وهما الأكثر هشاشة.. لكن الأكثر وفاء، تظلّان لفترة طويلة، كأرواح.. فوق حُطام كلّ ما يبقى، وتحملان، من دون تَراجُع، فوق قطراتها الصغيرة المتعذّر تحسّسها تماماً، صَرْحَ الذاكرة الهائل".
يعيش الشعب اللبناني في هذه الأيام السوداء، أو الأكثرية الساحقة منه سيلا جارفا من الأسئلة الحارقة التي تخص وجوده الفردي ومصيره الجماعي.. في رثاء استباقي يتسم بجدل متوتر في ثنائيات مضادة بين الذاتي والجماعي، الواقعي والخيالي، بين الغرائبي والفجائعي، بين دولة الفساد وأمراء الطوائف والمحاصصة على البشر والحجر وتحت الحجر من جانب.. والشعب المقسم والمجزأ والمشرذم من جانب آخر، بين سلاح شرعي من هنا وسلاح غير شرعي من هناك، بين الموت المؤجل مرحلياً والحياة العابسة والعبثية في لبنان الموت الرحيم المؤجل.. بين موت حروف وكلمات وفواصل ونقاط واشارات وقوافي قصيدة شعب كان يحلم بالصعود فوق فوق.. بين موت قصيدة وقصيدة؛ فهذه القصيدة - قصيدة مأساة شعب يحاول عبثاً القبض على المستقبل/المستحيل الذي يحتضن سؤال الوجود عبر لوعة الغياب اللبناني. كان البناء التكويني للعالم وما يزال يمثل حركة التصادم والصراع بين الأشياء : ( صراع الأضداد ) ، والحياة قائمة ومستمرة على وفق هذه الحتمية التاريخية المرتكزة على مجموعة لا متناهية من الثنائيات المتضادة :(الخير الشر، الحياة الموت، الأبيض الأسود، الضوء الظلام .... ) فهي تتحرك بين نقطتي مستقيم إحداهما نقيضة للأخرى وسلوك الأشياء على اختلافها يتبلور على وفق ذلك وتتوزع الاختلافات الفردية على طول المسافة بينهما، وبما إن الأدب عامة يمثل صورة مهمة من صور الحياة فهو يعكس جانبا مهما من هذا الصراع من خلال تقديم مواقف متعددة ومتناقضة ( للذات ) في أزمنة وأمكنة متعددتين تكشف عن مواقف خاصة وعامة بشتى الأحاسيس والمشاعر، أي إن النص الأدبي يحتضن تلك الصراعات بين هذه البني المتضادة إلا إنها تأخذ طابعا فنيا خالصا موشحا بغلالة - غلالة شفافة - شفافة جداً..
بين لوعة الغياب اللبناني التراجيدي بين ترسيم من هنا وترسيم من هناك.. بين خط لبناني من هنا وخط اسرائيلي من هناك.. بين خط ٢٣ من هنا وخط ٢٩ من هناك.. بين المساومة على بقاء سلطة فاسدة على مقياس ريختر الغاز والنفط ٢٣ من هنا ورحيل هذه السلطة على مقياس ريختر الغاز والنفط ٢٩ من هناك.. ورغم خط هنا وخط هناك لبنان الذي نعرفه يلفظ أنفاسه الأخيرة من هنا ومن هناك.. لبنان يلفظ أنفاسه الأخيرة على يد ابنائه الاعداء من هنا واعدائه الاعداء من هناك.. على كفن هدنة من هنا.. أو تطبيع من هناك.. وفجيعة الرحيل القادمة من هنا ومن هناك.. رحيل لبناننا الكبير والأخير.. تبدأ من هنا، وتنتهي من هناك.. وهنا يتسائل شاعر "الجدارية" في "حضرة الغياب" عن موته "الحتمي" ثانية.. بين ليلة واخرى من خيانة قلبه هنا ومن خيانة قلبه هناك.. وينظر نحو نفسه في المرايا / أَنا هُوَ؟ / هل أؤدِّي جَيِّداً دَوْرِي من الفصل الأخيرِ؟ / وهل قرأتُ المسرحيَّةَ قبل هذا العرض، أَم فُرِضَتْ عليَّ؟ / وهل أنا هُوَ من يؤدِّي الدَّوْرَ / أَمْ أَنَّ الضحيَّة غَيَّرتْ أَقوالها / لتعيش ما بعد الحداثة / بعدما انْحَرَفَ المؤلّفُ عن سياق النصِّ / وانصرَفَ المُمَثّلُ والشهودُ؟ / منْ أنت، يا أنا؟ / في الطريقِ اثنانِ نحْن، / وفي القيامة واحد./ خذْني إلى ضوء التلاشي / كي أرى صيْرورتي في صورتي الأخري./ فمنْ سأكون بعدك، يا أنا؟/ جسدي ورائي أم أمامك؟ منْ أنا يا أنت؟/ وتنحلٌ العناصر والمشاعر./ لا أري جسدي هناك،/ ولا أحسٌ بعنفوان الموت،/ أو بحياتي الأولي./ كأنٌِي لسْت منٌي./ منْ أنا؟/ أأنا الفقيد "الميت" هنا؟.. أم الوليد "الميت"، هناك ؟؟!!!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.