ستكون "14 آذار 2005"، وربما باتت، من "ماضي الأيام الآتية"، حسب عنوان للشاعر الأديب أنسي الحاج، بل هي ربما صارت كذلك، بعيد انتفاضة ذلك اليوم، بأشهر، حين وضح للمراقب المتمهل، أنها لحظة وعي وطني، ولدت من دماء رفيق الحريري، وإشهارا لنفاذ الصبر اللبناني من إصرار النظام السوري على مصادرة البلد، والتنكيل بأهله، حتى بالشهيد الذي لم يعدم وسيلة لاستيلاد لبنان الديموقراطي من براثنه من دون "استفزازه"، وهو الذي لا يستسيغ استقلال لبنان، وتسميه الأدبيات الشعبية السورية بـ"اللواء المتمرد"، فيما يسمى الاسكندرون بـ"اللواء السليب"، وفلسطين بـ"اللواء المغتصَب".
إذاً، ولدت انتفاضة الاستقلال من نفاذ الصبر اللبناني من تحايل نظام الوصاية على الوفاق الوطني الذي رسم دربه "اتفاق الطائف". فهذا النظام بدأ تحريف الخطوات المرسومة، في الاتفاق، لإنهاء الأزمة اللبنانية، بتعديل عدد أعضاء مجلس النواب ليحكم سيطرته على التشريع، وتالياً على القرار الوطني، ثم ربط انسحابه من لبنان بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للجنوب، ثم فرض منطق "شعب واحد في البلدين"، وعزف نغمة "الخاصرة اللبنانية الرخوة" ليبرر إبقاء قواته، في البقاع، شرطاً لانسحاب تدريجي مفترض.
ثم رأيناه كيف فوجئ بالإنسحاب الإسرائيلي، في أيار عام 2000، والذي كان يفترض أن يليه سحب قواته، فاخترع أدواته ما سمّوه استمرار احتلال جزء من قرية الغجر ومزارع شبعا، علماً أنّ أداته الرئيسية إميل لحود (رئيس الجمهورية الذي فرضه وفرض تمديد ولايته) كان وافق على ترسيم الخط الأزرق الذي لا يدخلها ضمن الأراضي المحرّرة.
وهنا نتذكّر إثارة هوية مزارع شبعا، أهي لبنانية أم سورية، وإصرار نظام الأسد على أنها لبنانية، والامتناع عن تقديم الوثائق التي يملكها لإثبات ذلك، كي تبقى موضع نزاع، من جهة، وحجة لاستمرار ادعاء "حزب الله" دور المقاوم. لأنّ تثبيت الأمم المتحدة لبنانية مزارع شبعا، يجبر إسرائيل على الانسحاب منها، والعودة إلى إطار اتفاق الهدنة الموقع عام 1948، فلا يعود من مبرر لادعاء المقاومة، ولاستمرار الوصاية التي اشترط النظام لانسحاب قواته من لبنان، ورفعها، إنهاء الاحتلال الاسرائيلي من كل الأراضي اللبنانية.
كانت الانتفاضة رد فعل شعبياً بلا انفعال، لذا كانت سلمية، لم تشهد أي إخلال بالأمن، وتلقائية بلا قيادات حزبية. كانت قراراً إجماعياً جمعياً، لم تنتظر إشارة من أحد. جمعت لبنانيين من كل البلاد، على تنوع أفكارهم، وانتماءاتهم. أسقطوا كل الفواصل بينهم ووحّدهم لبنان السيد الحر المستقل.
كانت الأحزاب ومسؤولوها بين الناس ومعهم، لكنها لم تكن في موقع القيادة. ولم يظهر قياديوها في الموقع المتقدم إلا قبيل الانتخابات النيابية في أيار 2005، حين أخلت القيادات الشابة للانتفاضة موقع القيادة لعتاة السياسيين، فتقدمت المصالح الحزبية الانتخابية الضيّقة على المطلق الوطني. وشجعت نصائح ديبلوماسيي "العالم الحر" على عقد ما سمي "التحالف الرباعي"، أي الرهان على ما لا يراهن عليه، وهو لبننة "حزب الله"، فكان أول سقوط في منطق الطائفية، الذي تحدته جموع 14 آذار، إذ ضم "تيار المستقبل" و "حركة أمل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي"، و"حزب الله"، وتبين لاحقاً أن الأخير أحسن انتهاز اللحظة، وأنّ خصومه فازوا بأكثرية محدودة، واندرج، ضمن ذلك، إعادة انتخاب الرئيس نبيه بري رئيساً لمجلس النواب، كبادرة إضافية، أكدها عدم ترشيح منافس، أو عدم الامتناع عن التصويت له، في استرضاء غير مجدٍ.
كان رهاناً ساذجاً في ذروة قوة 14 آذار، تجاهل انصياع الحزب لإرادة طهران، وهو أكد ذلك بأن أنجدها في مفاوضاتها النووية مع الغرب، حين فتح لإسرائيل باب حرب أخرى على لبنان، في تموز 2006، دمّرت بنيته التحتية ومعالم تطوره، وهجّرت ما يناهز مليون مواطن لاسيما من الجنوب، وضربت نسبة النمو، ومددت المفاوضات النووية المذكورة.
أدت حرب تموز بنتيجتها الملتبسة إلى استقواء الحزب وحلفائه على المجموع اللبناني، فيما كان الوضع الإقليمي متوتراً، مع إيران وبين نظام الأسد وباقي العرب. وفي قمة الكويت الإقتصادية، في آذار 2009، انعقدت قمة ثنائية سعودية – سورية، ثم رباعية بمشاركة مصرية وكويتية، انتهت إلى إشاعة أجواء عربية إيجابية، والتزام الأسد بالإنفصال عن المخطط الإيراني المذهبي، ما أملى مصالحة بينه وبين الرئيس سعد الحريري، وكان شكل حكومته الأولى. وهو رأى في حينه أن للبنان مصلحة أكيدة أبعد من أي نظرة ضيقة إلى الأمور. لكن بشار الذي شب على المشروع الإيراني أراد أن يشيب عليه، فنكث بتعهداته للملك السعودي.
كان الدافع عربياً، تحمّل الرئيس الحريري وقوى "14 آذار" نتائجه. وفي المقابل، ولاحقاً، اتخذ الرئيس الحريري مبادرات على الصعيد الداخلي كانت مفاجئة للحلفاء قبل الخصوم، رأى فيها مصلحة خالصة للبنان، منها في العام 2014، ربط النزاع مع "حزب الله" بهدف تحييد لبنان عن الحرب السورية، وتشكيل حكومة الرئيس تمام سلام، ثم كانت التسوية مع الرئيس (لاحقاً) ميشال عون، وانتخابه، لتجنيب البلاد التدهور الاقتصادي المتفاقم، وإعادة إطلاق تجديد البنى التحتية والنمو.
حتى اليوم، تبدو خيارات الرئيس سعد الحريري صائبة، أعطت ثماراً أكيدة، لا تبدو مقررات مؤتمر بروكسيل إلا كرأس جبل الجليد، الذي لم يكشف جلّه بعد. وما كان ذلك ليكون لو استمرت البلاد في المماحكة غير المجدية.
لربما يؤمن الرئيس سعد الحريري أن تمتين البنية الإقتصادية وإطلاق فرص الإنتاج، هي ما يخرج المتقوقعين من شرانقهم، ويفتح، فعلاً، المجال أمام إعادة إنتاج المواطنة الخالصة، أي ما أرادته ناس 14 آذار والمليونية الأشهر في تاريخ لبنان.
التسويات ليست تراجعاً، بل فرصة للتحفز لغد أفضل، إذا أحسن استخدامها.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.